شهادة وأمنيات

TT

كان الراحل الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، الوزير والسفير السعودي، شاعرا رقيقا، فصيحا، عذب التعبير، تفاعل بكثير من قصائده مع القضية الفلسطينية، وتفانى في تمجيد الشهداء ومنفذي العمليات الانتحارية التي كانت في حينه استراتيجية المقاومة الرئيسية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

خرج القصيبي يوم كان سفيرا للمملكة في لندن متمنيا الشهادة لنفسه، فواجه موجة انتقادات حادة مردها أن كيف لرجل حكومة في دولة غنية وسفير لها في أجمل مدن العالم وأكثرها استقرارا أن يتمنى مثل هذه الأمنية، من أين ستدخل عليه الشهادة؟ من لندن أم الرياض؟ على اعتبار أن الشهادة التي كان يتغنى بها هي شهادة الجهاد الحربي. رد القصيبي ببساطة وصدق أن هذه أمنية، فهل تحاسبونني على أمنية؟

تمني القصيبي للشهادة أشبه بحديث نفس، لم يفرضها على أحد ولم يجعل من تعامله مع الآخرين من العرب أو الغرب سبيلا للدعوة إليها، إنما وضعها داخل دواوينه الشعرية، كان سلاحه في ذلك القلم وذخيرته المداد. إنها أماني الصادقين.

لذلك بدا لنا إعلان خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في خطابه أمام المحتشدين لاستقباله في غزة بأنه يتمنى الشهادة، أمرا في غاية الغرابة. المقاومون لدولة محتلة جبارة كإسرائيل لا يتمنون الشهادة، بل يتوقعونها في أي لحظة لأنها الاحتمال الأكبر لمصيرهم. مشعل وقف على الدمار الذي تسببت فيه الحملة العسكرية الإسرائيلية المعروفة بـ«عمود السحاب»، ليعلن للجرحى وأهالي القتلى والمشردين بأنهم انتصروا، وأن إسرائيل التي حصلت على هدنة طويلة من الفصائل الفلسطينية المسلحة قد خرجت مهزومة. التبس الأمر على الناس، لأن ما يعلمونه أن إسرائيل هي التي تسعى لهدنة وحماس التي تنادي بالمقاومة وليس العكس. لكنه لم ينسَ أن يضع لمسة عاطفية بإطلاقه أمنية الشهادة، ثم تولى خارجا من غزة، أرض الجهاد، تاركا أهلها المرابطين الذين لم ينعموا بمقاومة المكاتب والدبلوماسية.

بالمثل لم يكن الوضع في مصر بعيدا، فخلال الفوضى التي تعجلت بها جماعة الإخوان المسلمين بعدوانهم على القضاء وفرض دستورهم الخاص، أعلن القيادي الشيخ سعيد عبد العظيم نائب رئيس «الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح» في مؤتمر صحافي بأن قتلى جماعة الإخوان المسلمين في المظاهرات الأخيرة أمام قصر الاتحادية هم شهداء، وما جرى عليهم هي أمنية تحققت لهم، وأن التيار الإسلامي يملك الاستعداد للزج بالملايين لينالوا شرف الشهادة.

إنه يا سادة «جهاد الديمقراطية».

الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح التي تضم في عضويتها أهم القيادات الإسلامية كخيرت الشاطر وطارق الزمر وصفوت حجازي كانت قد أطلقت خلال الانتخابات المصرية فتوى تحرم عزوف الناخب المصري عن الانتخاب بحجة أن المرشحين الاثنين لم يحققا مطالبهما، وأن عليهم أن يختاروا المرشح الأقرب إلى الله، ثم ألحقوها بفتيا أخرى تقول بوجوب توجه الناخبين لاختيار محمد مرسي لأن كل المؤسسات والتيارات الإسلامية اختارته لتطبيق شرع الله.

لم تتبدل الأحوال العربية كثيرا، فالسنون تكرر نفسها؛ الشيخ عبد العظيم يسوق إلى أن تكون مصر أرضا لمعركة بين الإسلام السياسي والمجتمع، بين قوى إسلامية تطلب الشهادة ضد أطياف أخرى من المصريين الذين يجاورونهم في السكن ويصلون معهم في المسجد نفسه ويشترون احتياجاتهم من متجر واحد، وهو الجهاد الذي أعلنه إسماعيل هنية حينما انقلب على الشرعية في غزة واعتبر قتالهم لفلسطينيين من فتح جهادا في سبيل الحق الفلسطيني.

انتهت حكاية غزة واستقرت الآن في هدنة طويلة، ولكن في دولة كبرى مثل مصر ينتظر منها أن تعين وتعاون على حل مشكلات عربية كبرى، كما كان دورها التاريخي دائما، يشعر الجميع بالتوجس والقلق، ونشفق على أهلها الذين استفزوا للخروج إلى الشارع للتظاهر رغم ما آلت إليه أحوالهم المعيشية، وينامون كل ليلة ولا يعلمون على ماذا سيستيقظون في الصباح.

الزج بمصطلح الشهادة والجهاد في أحداث مصر الأخيرة هو جريمة في حق المصريين وتحريض صريح على حمل السلاح واستخدام العنف، في الوقت الذي ينعم فيه المنادون بجهاد الشوارع بمنازل آمنة وأبناء آمنين بعضهم يتلقى تعليمه الأجنبي في دول غربية.

مهما يكن من سلامة نية الرئيس محمد مرسي ورفضه لمظاهر العنف فهو في النهاية المسؤول الأول والأخير عما يحدث، وإن بدا أنه يعمل بتوجيه من مرشد الجماعة محمد بديع أو نائبه خيرت الشاطر فهذا أمر يعيبه ولا يرفع عنه المسؤولية، فالرئيس السابق حسني مبارك حوسب وصدر بحقه حكم قضائي لمسؤوليته الأدبية بصفته الرئيس وليس لأنه أمر بالقتل.

الشهادة قيمة شرفية مضافة للموت الذي هو حقيقة مجردة، ولكن جزءا رئيسيا من قيمتها الهدف الذي تحققت من أجله، وعندما تهجر أرض الرباط فلا يجوز استدعاء مصطلح الشهادة في أرض النزاع السياسي، لأن الصراع على منازل الرؤساء معركة دنيوية لا علاقة لها بمنازل الشهداء.

[email protected]