مناورات «الإخوان» وأحاديث الانقلاب

TT

الإصرار على إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور رغم الاعتراضات الواسعة، والمظاهرات المحتدمة، يصب المزيد من الزيت على نار الخلافات والمواجهات التي تعصف بمصر في وقت أحوج ما تكون فيه إلى الاستقرار لكي تتجاوز المخاطر الجدية التي باتت تهددها وتهدد وحدتها واستقرارها. في مثل هذه الظروف تحتاج مصر إلى خطوات تهدئة حقيقية، لا إلى مناورات لتمرير مشاريع أو مخططات حزبية. المشكلة أن كل الخطوات والقرارات التي اتخذت منذ الإعلان الدستوري في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، الذي أشعل أخطر أزمة تواجهها مصر منذ الثورة، توحي بأن الإخوان وحلفاءهم من الجماعات الإسلامية الأخرى، يريدون تمرير مشروع الدستور بغض النظر عن الإضرار والمخاطر الناجمة عن ذلك في ضوء المعارضة الواسعة للخطوات المتخذة، وكأن المشروع مكسب حزبي لا قضية وطنية تهم البلد كله بجميع مكوناته ومختلف فئاته.

تمنى كثيرون لو أن الإعلان الدستوري الجديد الذي أصدره الرئيس مرسي يوم السبت الماضي قدم خطوة حقيقية لنزع فتيل الأزمة بدلا من تأجيجها، لكن قراءة نصوصه سرعان ما بددت الآمال، لأن الإعلان لم يأت بجديد بل بدا وكأنه مناورة أخرى للالتفاف على الاحتجاجات، ومحاولة لتشتيت المعارضين وكسب الوقت حتى يصبح الاستفتاء أمرا واقعا يوم السبت المقبل. فرغم أن الإعلان الدستوري الجديد ينص في مادته الأولى على إلغاء إعلان 21 نوفمبر، فإنه في الواقع أبقى الأمور على حالها من الناحية العملية لأنه حافظ على كل ما ترتب عليه من آثار. فماذا يعني إلغاء القرار ما دام أن كل آثاره وما ترتب عليه يبقى صحيحا؟

الأمر لا يتوقف عند هذا الحد لأن المادة الرابعة من الإعلان الجديد تحصن أيضا كل الإعلانات الدستورية بما فيها الإعلان الأخير وتمنع الطعن عليها أمام أي جهة قضائية وتسقط كل الدعاوى السابقة المرفوعة بهذا الشأن أمام «جميع» المحاكم. وهذه المادة منقولة مع تصرف طفيف عن المادة الثانية من الإعلان الدستوري السابق وتؤدي إلى النتيجة ذاتها وهي تحصين كل ما صدر في الإعلانات الدستورية السابقة من الطعن والتقاضي سابقا ولاحقا.

مرسي والإخوان يحاولون إقناع الناس بأنهم قدموا تنازلا مهما للمحتجين وألغوا الإعلان الدستوري الصادر في 21 من الشهر الماضي، لكنهم في الواقع لم يقوموا إلا بمناورة للتمويه، إذ ألغوا الإعلان شكلا وأبقوا على مضمونه، وهو أمر كان قد أفصح عنه رئيس الوزراء هشام قنديل حتى قبل صدور الإعلان الجديد عندما قال في تصريحات صحافية يوم السبت الماضي إن المجتمعين مع مرسي اتفقوا على تشكيل لجنة «لتعديل الإعلان الدستوري بما لا يفرغه من مضمونه». إذن المسألة مجرد تعديل لا إلغاء للإعلان السابق، والهدف منها المحافظة على مضمونه من خلال الصياغة التي تبقي على كل ما ترتب عليه من آثار. فالإخوان في الواقع لا يريدون تقديم تنازلات لإطفاء الأزمة بل يناورون لتمرير مشاريعهم بأي طريقة ومهما كان الثمن. وقد استخدموا الأسلوب ذاته عندما حصنوا بالإعلان الدستوري السابق اللجنة التأسيسية لكي تنجز مشروع الدستور في جلسات مارثونية استبقوا بها جلسة المحكمة الدستورية العليا، والآن يحصنون من خلال الإعلان الدستوري الجديد موعد الاستفتاء في وجه المعارضة والاحتجاجات، ويحاولون فرضه بسياسة الأمر الواقع.

فالكلام الذي يتردد عن أن موعد الاستفتاء لا يمكن تغييره بحكم أنه محدد بالإعلان الدستوري الذي تم استفتاء الشعب عليه في مارس (آذار) 2011. أمر يصعب هضمه، لأن مرسي ذاته لم يعط اعتبارا لهذا الإعلان عندما أصدر إعلانه الدستوري في 21 نوفمبر ومنح نفسه عصمة وأعطى لقراراته حصانة تجاوز بها الصلاحيات الممنوحة له والتي أقسم اليمين الدستورية على الحفاظ عليها واحترامها. والإخوان على أي حال لم يكونوا مضطرين لإثارة أزمة خطيرة كهذه والتعجيل بتمرير مشروع الدستور رغم المعارضة له، والغليان في الشارع، لكنهم أصروا على الدفع به، والآن يراوغون ويناورون لطرحه على الاستفتاء غير آبهين بالأزمة التي تعصف بالبلد، والأجواء المضطربة التي لا تتيح إجراء استفتاء حر وخال من الضغوط. بل إنهم لجأوا أيضا إلى سياسة الترهيب واستخدام القوة مثلما رأى الناس في المارشات العسكرية الطابع لعناصر الإخوان وحلفائهم من الجماعات الإسلامية الأخرى عقب مهاجمتهم للمعتصمين أمام قصر الاتحادية. وهم في ذات الوقت يواصلون حملتهم على القضاء ومحاصرتهم للمحكمة الدستورية العليا، ويصعدون حربهم ضد الإعلام للسيطرة عليه تحت لافتة تطهيره، وملاحقة الإعلاميين الذين يعارضونهم، ومحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي. ولتبرير كل ما يقومون به خرج المرشد محمد بديع، ونائبه خيرت الشاطر للترويج لنظرية المؤامرة وليقولوا للناس إن هناك محاولة للانقلاب على الشرعية ولاغتصاب الدولة. بل إن الشاطر ذهب أبعد من ذلك عندما قال: إن الجماعة لن ترضى «أن تسرق الثورة مرة أخرى»، متهما معارضي مرسي بأنهم يخططون للفوضى وأن أعدادهم لا تتجاوز 30 ألف متظاهر! مثل هذا الكلام يؤجج المشاعر ويزيد من حالة الاحتقان، مثلما أنه يوحي بأن الأزمة ستطول للأسف لا سيما مع الإصرار على تمرير الدستور بغض النظر عما سيترتب على ذلك من تبعات في ظل الأجواء الراهنة.

دساتير الدول ليست وثائق حزبية، أو ترجمة لتوجهات جماعة معينة على حساب رؤى مكونات المجتمع الأخرى، بل هي المنظم للحكم وآلياته، والضامن للحقوق والحريات، والوعاء الجامع لكل أطياف المجتمع من خلال إعلاء مفهوم المواطنة حفاظا على وحدة الأوطان والشعوب، بحيث تكون عامل وحدة لا سببا للفرقة والتشرذم. لكن الإخوان وأنصارهم من الجماعات الإسلامية الأخرى، لم يثبتوا أنهم يتعاملون مع قضية الدستور بهذا الفهم، وإلا لكانوا قدموا المصلحة العليا على المصلحة الحزبية، وأجلوا الاستفتاء على المشروع حتى ولو من باب أن درء المفاسد يقدم على جلب المصالح. فالخلافات تمزق مصر، والإصرار على إجراء الاستفتاء وتجاهل الاحتجاجات القوية من قطاعات كبيرة من المصريين، لن يسهم في حل الأزمة بل سيزيد الأمور تعقيدا ويدفع بمصر نحو المزيد من المواجهات التي تضع البلد على حافة المجهول.

[email protected]