«حرمليك» السلطان وغضب أردوغان

TT

لأقولها منذ البداية لست من عشاق «حريم السلطان»، لكنني من المتابعين له بفضل زوجتي التي توجز لي موضوع كل حلقة، وتصرخ طالبة مثولي بسرعة البرق أمام جهاز التلفزيون لعدم تفويت المشهد كلما وقعت المفاجآت أو كانت الإثارة في ذروتها. هكذا كنا نمشي الحال إلى أن قرر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الدخول بقوة على الخط وألزمنا الالتحاق بجيش الحشريين، الذين تزايد عددهم بعدما شن حربه الضروس على المسلسل وفريق عمله والممولين، داعيا القضاء للتحرك من أجل وقف هذه المهزلة.

«حريم السلطان» كما سماه مركز القرار الدعائي والتجاري في العالم العربي، متخليا عن تسميته الأصلية «القرن العظيم» أو «العصر الرائع» - من المفترض أن يكون دراما تركية تروي حقبة من حياة أحد أهم سلاطين الحكم العثماني وأطولهم مدة في الحكم وهو سليمان القانوني. لكن المسلسل، الذي يعرض منذ أكثر من عام في الكثير من المدن والعواصم بلغتها الأم، يبدو أنه تجاوز الحدود وحطم باب الحريم، مخترقا أهم الممنوعات والمحظورات وأكثر المسائل حساسية في الإدارة العثمانية، وبدأ ينقل خبايا وخفايا ذلك المكان وما يدور فيه من مؤامرات وحيل، وأعمال كيدية انتقامية وصلت إلى حد نقل وقائع ومشاهد غرف نوم السلطان وأسرته وحروب نسائه، بدل تقديم حروب القانوني وانتصاراته ومجده الذي أبهر الشرق والغرب.

مشكلة المسلسل هي أنه يجمع بين الوقائع التاريخية والأسماء الحقيقية لأبطال تلك الحقبة، والخيال والفبركة، للترويج لهذا العمل الذي ساهم في جني الملايين مثل غيره من المسلسلات التركية المدبلجة، وربما هذا كان السبب الآخر الذي استفز أردوغان وأغضبه.

رئيس الوزراء التركي غاضب أيضا لأن المشرفين على العمل اختاروا الربح المادي على حساب انتهاك حرمة «الحرمليك» وعلى حساب شخصية تاريخية عثمانية أمضت 30 عاما من حياتها على ظهر الفرس في الفتوحات والمعارك، وحملت المجد والشهرة لهذه السلطنة كما أردوغان نفسه. هم تلاعبوا بالجانب المحتشم من عهد القانوني الذي حمل الإصلاحات والتغيير والتحديث إلى الإدارة والحكم، وحولوه إلى سلطان لا يغادر «الغرفة الخاصة» و«زير نساء»، لا هم له سوى الحكم بين خلافات ونزاعات سيدات القصر ودسائسهم.

أردوغان مصرّ على المضي في حربه على المسلسل الذي اختار تقديم حروب نساء الحاشية والجواري على إبراز حروب وانتصارات عاشر سلطان عثماني حكم أراضي وممالك شاسعة نصف قرن تقريبا، هو دعا مباشرة القضاء للتدخل وسيكون له ما يريد له ما يريد، فأحد سكان مدينة قونيا في قلب الأناضول تقدم بشكوى أمام مدعي عام المدينة، مطالبا بوقف عرض المسلسل الذي يحرف التاريخ ويكتفي بحمل عدسات الكاميرا إلى مقر الحريم وحماماتهم وخلواتهم، كما يقول الكاتب الإسلامي فهمي قورو.

ومنتقدو تصرف أردوغان هذا يلجأون إلى لعبة الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير ويتساءلون: لماذا تحرك رئيس الوزراء فقط عندما كان القانوني هو المستهدف، وتجاهل عشرات الأعمال التي لا تعكس حقيقة صورة المجتمع التركي والتي أساءت إليه في أكثر من مكان؟ الأكاديمي والكاتب الليبرالي إحسان داغي قال في جريدة «زمان» الإسلامية: «كيف سيتصرف السلاطين أنفسهم إذا ما عادوا لمشاهدة معالم المدينة التي بنوها. هل ستعجبهم ناطحات السحاب هذه التي تم تشييدها دون دراسة وتنظيم لتكون مثل الشبح الجاثم فوق معالم المدينة وتاريخها؟ ألا يستحق هذا التصرف محاسبة البعض أيضا؟».

بكير جوشقون، كاتب صحافي علماني أتاتوركي، يردد أن ما أغضب أردوغان هو بعض الجوانب المؤلمة في التاريخ العثماني، إذا استمر عرض المسلسل فقد نشاهد بعد قليل كيف أصدر القانوني فرمان قتل نجله مصطفى ولي عهده.

إعلامي تركي، هو أحمد هاقان، ينقل كلام أردوغان حول «إننا سنذهب نحن أيضا إلى كل مكان قصده أجدادنا» ليفسره على أنه جزء من استراتيجية «العدالة والتنمية» في الانفتاح مجددا على منطقة الشرق الأوسط والاهتمام بها.

المواجهة ستكون صعبة بين المجلس الأعلى للراديو والتلفزيون التركي الذي يقول إن أكثر من 70 ألف شكوى قدمت حتى الآن ضد هذا المسلسل الذي يشوه الحقائق التاريخية، وعمل تلفزيوني يواصل تحطيم الأرقام القياسية في عدد المشاهدين، ويصر أردوغان على تحطيمه. فلمن ستكون الغلبة؟

فتيات روسيات بدأن بتعلم اللغة التركية لمتابعة أحداث المسلسل بعدما قررت سلطات بلادهم حظر هذا العمل التلفزيوني الذي يروج للدعاية التركية ويشيد بالعهد العثماني ويدر الملايين على شركات الإنتاج، ويتحول إلى مورد رزق لمئات الأسر.

كتاب كثر يرون أن الحل قد يكون من خلال تشجيع عشرات المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة على إنتاج المسلسلات التاريخية التي تنقل الصورة الصحيحة للتاريخ التركي ولحياة السلاطين، بدل اللجوء إلى السلطة القضائية لقطع الطريق على هذه الأعمال.