مصر: لن تنفعكم الفروع.. بعد هدم الأصل

TT

عامان كاملان - تقريبا - مرا على الثورة المصرية ضد النظام السابق، فماذا جرى في هذين العامين؟

تجمد أو توقف كل شيء تقريبا؛ إما بسبب ترك مواقع العمل لأجل التفرغ للاحتجاجات والمظاهرات في الميادين.. وإما بسبب انغماس متصاعد المعدلات في السياسة وبلاياها وسراديبها وجحورها.

وثمة سبب ثالث، وهو «الحل الخارق» الذي سيخرج من «صندوق الاقتراع».

انتظر الناس هذا الحل من خلال الصندوق العجيب في الاستفتاء الأول على الدستور، ثم انتظروه في انتخابات مجلس الشعب والشورى.

ثم انتظروه في الانتخابات الرئاسية.

وها هم اليوم (السبت 15 ديسمبر) ينتظرونه عبر الاستفتاء على الدستور.

وقد جرى الاحتكام إلى «الصندوق الخارق» في ذلك كله، بيد أن الحل لم يأتِ.

ولا نحسب أن الحل المطلوب الناجع سيأتي من خلال الاقتراع الماثل على الدستور.

لماذا؟

لأن المعارضين للاستفتاء، على الرغم من قرارهم بالذهاب إلى الصندوق، فإنهم احتاطوا لرفضه حتى لو ظفر بأغلبية في التصويت. فقد قالوا: «لن نقبل بنتائج الاستفتاء إلا إذا توافرت النزاهة التامة في الاستفتاء».

وهذه عبارة مطاطة تتيح الرفض عبر زرع الشك المبكر في نزاهة إجراءات الاستفتاء.

وإذا بُيّتت النية على شيء، فإن أصحابها لن يعدموا الوسائل والأساليب التي تعزز نيتهم أو اتجاههم، ولا سيما في مناخ مثل هذا مشحون بفقدان الثقة والتربص والكيد المبرمج.

وحقيقة الأمر: إن «الصندوق الخارق» لا يستطيع - وحده - أن يكون حَكَما صالحا ومأمونا وحاسما في مثل هذه الأمور.

ما هذا؟! هل البديل هو المطالبة بإيجاد «ديكتاتور» يرفع الخلاف أو يحسمه؟

لا.. لا بداهة.

فالديكتاتورية ذاتها كارثة تفوق في ضررها وبلائها وتعاستها أضرار اللعبة الديمقراطية. إنما المطلوب هو «التوافق السياسي الجاد والصادق على كبرى القضايا وأمهات المسائل الوطنية».. ومن هنا ترسخ «العرف الدولي» بأن وضع الدستور الدائم «ثمرة لتوافق وطني عام» قبل كل شيء.

وهذه عبارة ترقى إلى مرتبة «الحكمة العملية»، ذلك أن الدستور الدائم لأي بلد يتطلب رؤى وطنية ثاقبة، ومفاهيم حضارية ناضجة، ومقاصد سياسية وإدارية واجتماعية تتميز بالاستواء والرشد.. وهذه مستويات لا يبلغها العامة والدهماء، أي الأغلبية العددية أو الميكانيكية.

ويتصل بهذه النقطة نظيرها، وهو «الاحتكام إلى الحوار».. كلما نشبت أزمة تنادى الناس إلى «حوار» أوسع وأعمق حول المختلف فيه من القضايا.

وليس عاقلا - قط - من يرفض الحوار، أو يستهين به. فلم يزل الحوار أسلوبا من أرقى وأنجع أساليب التفاهم وتبادل الرأي والمشورة.

لكن الحوار لا يصح، ولا يستقيم، ولا يقود إلى نتائج إيجابية مشتركة إلا إذا ارتكز على أسس واضحة جدا، وإلا فإن مثل المتحاورين يكون كمثل من قيل فيهم:

أقول له: عمرو.. فيفهم خالدا

ويكتبها زيدا.. وينطقها سعدا!!

إنه البث الفوضوي على موجات مختلفة؛ لا يلتقي المتحاورون عليها في نقطة البدء، ولا في السياق الوسط، ولا عند المقاصد والأهداف.

ما أسس الحوار الموضوعية؟

1 - الوحدة الوطنية.. وفيها من المسلمات البديهة ما لا يحتمل الخلاف والشقاق.

2 - الأمن والاستقرار الوطني.

3 - الأمن القومي العام.

4 - البناء والتقدم من أجل تعويض ما فات؛ ابتغاء الندية مع دول العالم ثم التفوق.

5 - العدالة الاجتماعية لكل إنسان.

6 - اللغة الرفيعة في الخطاب «البيْني»، وهذا أساس ترتكز عليه الأسس الأخرى.. ونعني باللغة الرفيعة: فطم الفم - نهائيا - عن «شهوة الكلام البذيء»، فباسم الديمقراطية وحرية التعبير نشطت الأفواه - أيما نشاط - في ضخ ألوف الكلمات بمعدلات مذهلة، وهو كلام سائب ومؤذٍ ومدمر وممزق لذات البين.. والسبب هو أن ناسا من الناس يظنون أن الكلام قدرة هائلة ومستمرة على «تحريك الفكين»، حتى وإن نشأ عن حركتهما ما يدمر البلد والمصلحة ويمزق الأرحام وأواصر الأخوة، ويردد أناس - ها هنا - مقولة «الخلاف لا يفسد للود قضية».

وهذه العبارة المبهمة ليست صائبة بإطلاق.. فهناك من الخلاف الهابط المضمون المستمر العبارة ما يفسد الود كله، ويحوله إلى عداوة تؤز إلى امتشاق الحسام، ولذلك قال العرب العقلاء:

«والحرب أولها كلام». ومن أراد أن يتحقق من صحة ذلك - في العصر الحديث - فليطالع فلسفة «جوبلز» وزير دعاية هتلر. فقد ضخ من الكلام الملتهب ما زاد الحرب العالمية الثانية سعيرا.

ومهما يكن من أمر، فإننا نقترح على الإخوة المصريين أن يؤجلوا - بوعي وعمد - الانشغال بالفروع (الدستور والانتخابات، والصراعات الحزبية.. إلخ) لكي تتفرغ جهودهم كلها للمحافظة على «الأصل» وهو «مصر».

ومن دواعي استدعاء الوعي المطلوب استحضار مخططات تفتيت «الدولة الوطنية» في المنطقة - وليس من العقل ولا الواقعية استثناء مصر من هذا المخطط، ذلك أن مصر - بالذات - في «قلب العاصفة»، ودوما خُصت بأنصبة مزيدة من الكيد والتآمر.

ولقد جاءهم النذير.

ففي أثناء التحقيق القضائي فيما عرف بقضية «التمويل الأجنبي غير المشروع لعدد من منظمات المجتمع المدني» في أثناء هذا التحقيق ضبطت خرائط تقضي بتقسيم مصر إلى دويلات أربع.. وهذا هو نص ما ورد في قرار الاتهام في هذه القضية «فيما يتعلق بمخطط التقسيم: الخرائط المضبوطة بمعرفة النيابة العامة في أثناء تفتيش مقر هذه المنظمات بناء على أمر قاضي التحقيق.. هذه الخرائط تتضمن تقسيم حدود مصر، وإخراج حلايب وشلاتين وتعديل خط العرض المتعارف عليه دوليا»، أما التدخل اليدوي فقد قسم مصر إلى أربع دويلات هي:

أ - القنال ب - صعيد مصر ج - القاهرة الكبرى د - الدلتا، دون أي ذكر لمنطقة النوبة.

نعم.. لقد جاءكم النذير، فاستمسكوا بـ«الأصل»، ولا تتلهوا بالفروع التي لا قيمة لها من دون الأصل.

ومن طلب البحر استقلّ السواقيا.