الحلال المبغوض.. «دولة شمال العراق» و«دولة جنوب لبنان»

TT

مع بداية العد العكسي لانقضاء المحنة السورية وانتقال سوريا من دولة الشخص الواحد والحزب الواحد إلى دولة تشاركية، وعودة المؤسسة العسكرية إلى ما من الطبيعي والواجب الوطني أن يكون الاسم «حماة الديار» على المسمى بدل هذه الجحافل من «الجيوش الحرة»، تلوح في أفق المشهد العربي احتمالات الانتقال الجدي في الحديث حول «الدولتين المستَحبتين المبغوضتين» من التنظير إلى التطبيق المتدرج.

«الدولتان» هما «دولة جنوب لبنان» في ضوء ما سمعناه من زعامة شيعية كبيرة الشأن قال: إنه للمرة الأولى منذ نصف قرن يشعر بخطر داهم يهدد الكيان اللبناني ويشطره. أما الأخرى فإنها «دولة شمال العراق». واستنادا إلى واقع الحال فإن الدوافع والمقومات متوافرة. كما أن سابقة الحدوث تمت ومن دون أي مقومات أو شعور بالإثم الوطني ونعني بذلك انشطار السودان اثنين ووضْع هذا البلد الأشبه بالقارة على قائمة احتمال حدوث المزيد من حالات الانشطار. فالأمر الصعب هو الانشطار الأول، أما بعد ذلك فيصبح الأمر من البديهيات. والأمر الأصعب هو أن يعتبر أولو الأمر أو الحكم أو الحزب أن إثم التفريط هو حل وطني وليس انشطارا للكيان اثنين، مع ملاحظة أن هذا الفعل المبغوض تم من دون حدوث ظروف كتلك التي حدثت في الزمن الماضي وأدت إلى أن تكون ألمانيا اثنتين غربية وشرقية وكوريا شمالية وجنوبية وفيتنام مثلهما. وفي ضوء ما جرى لاحقا فإن فِعْل الأمر الواقع جرى تصحيحه بأن سقط الجدار الفاصل بين الألمانيتيْن وعاد البلد موحدا وأن تأثيرات النضال والتضحيات أوجبت استعادة فيتنام دولة واحدة. وأما كوريا فهذه مسألة فيها نظر إلى حين.

ما فعله أهل الحكم السوداني المكنى «الإنقاذ» أنهم تخلوا عن جنوبهم مكلِّلين فِعْلهم هذا بتنظيرات تتمحور حول احترام حق الشعب في تقرير مصيره، عِلْما بأن ذلك ينطبق في حال كان الشمال يحتل الجنوب لكنه لم يكن كذلك وإن كان يقاتل التمرد في الجنوب. وخلاصة القول: إن فِعْل الفصل الطوعي هذا يفتقر إلى الاقتناع به، وحتى إذا كان حُكم «الإنقاذ» يعتبر جنوبه المسيحي - الوثني في أكثريته السكانية عقبة أمام تحقيق برنامجه في قيام دولة إسلامية يقود «أمير المؤمنين» فيها «أمة الإسلام الأفريقي». وهذه بعض أحلام اليقظة «الإنقاذية».

الآن وفي اكتمال إمكانية السابقة التي هي «دولة جنوب السودان» تتزايد احتمالات أن نسمع فجأة عن خطوات جدية لتحوُّل الإقليم الكردي في العراق إلى «دولة شمال العراق» ويقوى هذا الاحتمال عند التأمل في طبيعة الشراكة بين أهل الحكم في العراق ورموز صانعي القرار في الإقليم الذي يتطور بسرعة وينمو على أسس واقعية وبات ملاذا للسياسيين العراقيين المضطهدين أو المبغوضين وربما لاحقا لحكام منصرفين خلعا في بعض دول العالم الثالث، كما أنه ملاذ للعراقيين الباحثين عن لحظات من الهدوء والطمأنينة على أسس واقعية كونه يعيش حالة استقرار تشبه في طبيعتها تلك الحالة التي كانت سائدة في العراق الصدَّامي ولا يحدث في العراق الشمالي البرزاني وبالذات في أربيل والسليمانية ما يحدث يوميا في بغداد ومعظم المدن والبلدات الرئيسية في العراق المالكي من تفجيرات. وإلى ذلك فإن الشعور بالاستقلالية الكاملة يتزايد في المجتمع الكردي وإلى درجة أن النزعة الاستقلالية العسكرية تنمو بسرعة ولا يتجاوب «زعيم الشمال» مسعود برزاني مع إصرار الزعامة المالكية على أن يكون عسكريو الشمال جزءا من المؤسسة العسكرية المركزية. كما أن مرحلة الاعتزاز بأن رئاسة دولة كل العراق هي للأكراد ورئاسة الدبلوماسية لهم أيضا وعشرات المناصب المتقدمة في الدولة هي الأخرى لهم، لم تعد السبب الذي يحول دون الجنوح نحو الاستقلالية، وذلك لشعورهم غير المعلن بأن تلك الصيغة جاءت ضمن سيناريو بريمر وليست عن توافق وطني وأن «الملك الحقيقي» في العراق هو رئيس الوزراء وليس الرئيس جلال طالباني، كما أن صانع السياسة الخارجية هم «المالكيون» في الوزارة وليس الوزير هوشيار زيباري مع ملاحظة أنه مارس الواجب بكل اللياقة والتفهم وعدم إحراج الموقف العام للدولة. هؤلاء في شعورهم هذا يرون أن صيغة الحكم في السودان ما قبل الانشطار لم تقنع الجنوبيين بأن نائب الرئيس كان سلفا كير وأن رئاسة الدبلوماسية ومناصب أخرى متقدمة كانت في عهدة جنوبيين. فالشعور بالخصوصية أمر لا تفك ألغازه مناصب عابرة ومن أجل ذلك كان السعي الدؤوب للانفصال وقيام «دولة جنوب السودان» التي، كما المحتمل حدوثه في العراق باستحداث أو بإنتاج دولة مستقلة فيه هي «دولة شمال العراق»، ما كانت لتتم لولا الرعاية الدولية لها وإلى درجة أن دبلوماسية دولة كبرى مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا أدرجت «دولة جنوب السودان» في الصفحة الأولى من «أجندة الاهتمامات» ويجوز الافتراض بأنها ستفعل الشيء نفسه في حال انتقال الحديث حول استقلال الإقليم في العراق من مجرد بعض التحديات ذات الطابع المحرج لأهل الحكم في بغداد إلى اتصالات تؤدي إلى خطوات. وعندما يقول مسعود برزاني في تصريح له إن جيشه المسمى «البيشمركة» مستعد للرد «على أي اعتداءات من جانب الجيش العراقي» فإننا نستحضر ما كان يقوله سلفا كير أو جنرالات جيشه يوم كان ما زال نائبا أول للرئيس عمر البشير. كذلك عندما يقول عضو البرلمان العراقي عزة الشابندر المنتمي إلى «ائتلاف دولة القانون» بزعامة الرئيس نوري المالكي في أحد تصريحاته «إن ممارسة أكراد العراق حق تقرير مصيرهم مشروع جدا وأعتقد أن كل السياسيين العراقيين أو غالبيتهم يؤمنون بذلك بمن فيهم رئيس الوزراء، وإن من حقهم المشروع إعلان دولتهم الكردية...»، ثم يستدرك «لكن الظروف أو الشروط الوطنية والإقليمية والدولية غير مناسبة لذلك حاليا»... إنه عندما يقول هذا البرلماني ما قاله ومن دون أن ينبري مالكي ما إلى نفيه أو حتى تلطيف مفرداته فهذا يعني أن الجمع العراقي عربا وكردا في انتظار «الظروف أو الشروط الوطنية والإقليمية والدولية» كما أن الكلام الشابندري وبتلك النبرة يجعلنا نستحضر ما كنا سمعناه على مدى سنتين سبقتا قيام «دولة جنوب السودان» بالتراضي من أن للجنوبيين الحق في أن ينفصلوا. هكذا وكأنما الكيان قالب حلوى يلتف حوله حملة السكاكين لتقطيعه في احتفالية وعلى أنغام الموسيقى وبحيث يتذوق أو يلتهم كل حامل سكين القطعة التي تلبي شهيته وتنسجم مع مقومات بقائه في سدة الحكم.

ما نقوله بالنسبة إلى أكراد العراق واحتمال أن تنتهي السجالات والتحديات إلى المستحَب من زعامات في الجانبين المبغوضين من الناس، كما الطلاق الذي هو أبغض الحلال، ربما سنجده يتبلور في المشهد الجغرافي والسياسي للمنطقة في لبنان بعد أن يتوارى النظام البشَّاري وتقوم دولة السوريين وفق رؤى جديدة تقوم على التشاركية. وهذه الدولة ستفصل سوريا عن إيران الأمر الذي سيجعل هذه الأخيرة أمام احتمال نشوء الشوكة الكردية في الخاصرة الشمالية «عراقها».. العراق الإيراني الولاء والهوى وفقدان أهم محطة «ترانزيت» سياسية وعسكرية في تاريخ المحطات ونعني بذلك سوريا تلعب الورقة الأخيرة وهي الاستئثار بما يمكن تسميتها «دولة جنوب لبنان» يتولى أمرها «حزب الله» بالاختيار و«حركة أمل» بالاضطرار. وتُبرم هذه الدولة معاهدة مع إيران وروسيا وتكون ملاذا للحكم البشَّاري المنصرف. ولدى هذه الدولة من القوة العسكرية ما يجعلها أقوى من الدولة المركز. وحول مسألة التسليم بقانونيتها وشرعيتها فإن ذلك سيكون ضمن صفقة دولية بين الكبار. وأما أن لا مطار لها ولا مرفأ فهذا أمر يتم إيجاد الحل له على قاعدة تبادُل الأراضي. أما مسألة أن الناس يرتضون ذلك أو لا يرتضون فهذا غير وارد لأن ما يمكن أن يحدث هو أن الكلمة الأعلى هي لولي الأمر وأن الرعية مقدَّر لها أو مكتوب – مفروض عليها أن تطيع.

الحالتان مجرد احتمالين ترتسم في أفق المشهد السياسي ملامح حدوثهما. والذي يدفع في اتجاه الحدوث أن حالة أكراد العراق وحالة «حزب الله» في لبنان ومن قبل ذلك جنوبيو السودان وصلت إلى حد أن الثلاث عبارة عن أن كلا منها «دولة ضمن الدولة» مع فوارق في الشأن والأهمية والقوة والارتباطات الدولية والعوامل المذهبية.

وحيث إن زعامات هذه الحالات ترى أنها يجب ألا تكتفي بالبقاء شبه دولة رسميا أو كما آلت إليه الحالة الفلسطينية في الأمم المتحدة «دولة مراقب»، فإن الطريق سالك على ما هو حاصل أمام ركوب موجة الفعل المستحَب... المبغوض وهو الانشطار وتحت تسمية «الاستقلال». وما دام جنوبيو السودان غامروا معتمدين في ذلك على «فتوى إنقاذية» تحلل ما هو محرَّم وتكتفي باعتباره مبغوضا فلماذا لا يحذو المغامرون الآخرون حذوهم؟! يا لسوء حظ الوطن العربي الأكبر.