المقياس القشطيني للمدنية

TT

خلال زيارتي لمدينة السليمانية، حدثني أحد المسؤولين خلال صعودنا في مصعد فندقها «هايكرست» الجديد، فقال: «خلّي بالك يا أستاذ قد تنقطع الكهرباء لبضع دقائق هنا في كردستان، ويعني ذلك توقف المصعد عن الحركة لدقائق». ما قال ذلك حتى كبست على زر الطوارئ وأوقفت المصعد وخرجت. لقد استطعت أن أتحاشى السجن في سجن أبو غريب، وسجن نقرة السلمان، لذا فإنني لا أريد الآن في أواخر حياتي أن أكون سجينا في أسانسير.

خرجت وجلست في مطعم الفندق. انطلقت في التأمل والتفكير. قطع الكهرباء في العراق شيء معتاد جعل العراقيين يحيون بعضهم البعض بالسؤال: «كيف الكهرباء ها الأيام؟!»، بدلا من كيف صحتك أو كيف الأولاد أو كيف الجو أو كيف سعر الدينار. لم تعد الكهرباء مجرد موضوع يتعلق بالإنارة، فقد أصبح كل شيء يتوقف عليها، من الطبخ إلى التهوية إلى التبريد أو التسخين. كل الأجهزة العلمية ووسائل المعلومات والأبحاث تعتمد عليها، وفي المستشفيات تصبح مسألة حياة أو موت. حتى المسؤولون عن تعذيب المعتقلين في مخابرات أكثر الدول العربية يتوقف عملهم إذا انقطعت الكهرباء فلا يستطيعون كي المعتقل.

المؤسف أن تقطّع الكهرباء الذي أصبح شائعا في العراق غدا شائعاً في معظم الدول، بل في كلها. عانى منه الأميركان والإنجليز قبل أسابيع بسبب الزوابع. وعليه فما دامت كل معالم الحياة والمدنية تتوقف عليه فمن الممكن اتخاذه كمقياس لتقدم الأمم أو تأخرها، بدلا من كل هذه المقاييس السخيفة المعتمدة حاليا مقياسا للتقدم. وهذا ما أعتزم اقتراحه اليوم. المقياس القشطيني للمدنية يعتمد على ثلاثة جداول.. أولا: كم دقيقة وثانية انقطعت فيها الكهرباء في البلد خلال السنة؟ ما نحصل عليه من أرقام يفضي إلى جدول آخر: كيف وزعت انقطاعات الكهرباء طبوغرافيا وديموغرافيا وجيوفيزيائيا وبيروقراطيا وديمقراطيا؟ كم منها أحاقت بأكواخ العاطلين، وكم مست منازل الحرامية المختلسين؟ ننتقل بعد ذلك إلى جدول يتعلق بالشموع، فعندما تنقطع الكهرباء يلجأ الناس إلى استعمال الشمعة، ويفضي بنا ذلك لجدول آخر: كم مليون شمعة استوردت خلال السنة؟ كم منها استعمل لأغراض دينية كما في الكنائس، أو أغراض خرافية كما في شموع الخضر ويوم زكريا، وكم للإنارة عند انقطاع الكهرباء، أو أي أغراض أخرى غير مرئية؟ ثم نحسب نسبة الشموع لعدد السكان. الحمل والولادة يرتبطان بهذا الموضوع أيضا.. اكتشفت ذلك بلدية نيويورك عندما لاحظت زيادة مفاجئة في المواليد، ولدى البحث تبين أن انقطاع الكهرباء في أحد الأيام أدى لهذه الزيادة.. فبعد مدد طويلة من انصراف الرجال عن زوجاتهم وانشغالهم بالتفرج على مباريات الكرة، أدى انقطاع الكهرباء عن التلفزيون إلى الذهاب للفراش وأحضان زوجاتهم، فكانت النتيجة زيادة في المواليد ببضعة آلاف طفل جديد لم يكن ليكتب لهم أن يظهروا على وجه الأرض لولا الانقطاع الذي حصل في الكهرباء. وعليه فحمل النساء كثيرا ما يتوقف على توافر القوة (وأقصد طبعا القوة الكهربائية) أو انعدامها.

وهذا هو الموضوع الذي يعطينا جدولا إحصائيا آخر عن نسبة مواليد انقطاع القوة مقابل عدد مواليد توافر القوة. ولربما يصدر تقرير من جامعة أكسفورد يثبت أن من تحمل بهم أمهم عند وجود الكهرباء أكثر صحة وجسما وعقلا ممن تحمل بهم أمهم عند انقطاع الكهرباء. ولعمري، لربما سيفسر ذلك لماذا حصلنا على كل هؤلاء الناخبين الظلاميين الشباب في منطقتنا العربية. نعم، لقد حملت بهم أمهاتهم في الظلمة.