روسيا ترجع إلى الخلف

TT

لقد كنت في الخامسة والعشرين من العمر عندما توفي ستالين. أنا سيدة عجوز، لكن السنوات لم تنجح في محو ذكرياتي عن الحياة في عهد نظام شمولي استبدادي. إن روسيا اليوم مختلفة كثيرا عما كانت عليه في الماضي، ولا يمر في خاطري احتمال أن تعود إلى تلك الحال مرة أخرى.. لذا، فلنستبعد ذلك الأمر تماما.

تطورت روسيا بشكل مذهل خلال 21 عاما وتحولت إلى مجتمع مدني ينبض بالحياة، لكن النظام السياسي خلال العقد الماضي لم يواكب هذا التطور. كان نتاج سنوات حكم بوتين نظاما سياسيا مستقرا، لكنه هش وفاسد للغاية. إنه أيضا نظام يتعامل مع شعبه كأنه طفل. أتذكر سخطي الشديد العام الماضي عندما سمعت الرئيس الروسي آنذاك، ديمتري ميدفيديف، يخبر حزبه خلال المؤتمر بأنه وفلاديمير بوتين، الذي كان رئيسا للوزراء حينها، سيتبادلان المناصب، وأن هذا القرار تم اتخاذه منذ فترة طويلة. وكان هذا شعور كثيرين غيري. أيقظت هذه الخطوة الخرقاء، والخطوة اللاحقة التي تعد أكثر حمقا، وهي التزوير السافر للانتخابات البرلمانية العام الماضي، المجتمع الروسي مرة أخرى، حيث شارك عشرات الآلاف في مظاهرات سلمية حاشدة غير مسبوقة، وربما تعاطف معهم عدد أكبر، وكان ذلك مصدر إلهام لي خلال العام الماضي. مع ذلك، لم يكن سبب هذا هي الاحتجاجات فحسب، بل أيضا المؤشرات الأخرى التي تدل على صحوة المجتمع الروسي، مثل ذهاب المئات إلى مراكز الاقتراع لمراقبة الانتخابات وجمع النشطاء المال من أجل مكافحة الفساد وتبادل الآراء والأفكار وتنظيم حملات فعالة باستخدام الإنترنت.

أنا لست من المطلعين على الأمور السياسية في الدوائر الضيقة، لذا لا يمكنني توقع ما سيحدث، لكنني أسمع صوت السخط الشعبي العالي، ويحدوني الأمل في أن يحدث تغيير إيجابي. لا يمكنني تخيل أنه بعد عام من الآن سأتساءل عن أي زميل لي في حركة حقوق الإنسان سيكون في السجن.. هكذا أتصور تلك الأيام.

الكرملين في حالة استنفار ويشعر بالإهانة من تزايد السخط وكأن لسان حالهم يقول: «كيف يجرؤون؟ يا لهم من أبناء جاحدين». وبعد حفل تنصيب بوتين رئيسا، شرع الكرملين في تضييق الخناق على الشعب. وبدأ بفرض قيود جديدة على المظاهرات، وسن قوانين جديدة أكثر صرامة، ووضع المزيد من القيود على الإنترنت. ويأتي بعد ذلك قانون المنظمات التي لا تهدف للربح، الذي يوجب على مؤسسات مثل تلك التي أديرها؛ تلك التي تحاول التأثير على الرأي العام والسياسات العامة، التسجيل والاعتراف علنا بأنهم «عملاء أجانب» على أساس افتراض مضحك، وهو أننا إذا قبلنا ولو تمويلا بسيطا من جهة أجنبية فهذا يعني أننا نعمل لحساب جهة أجنبية، وإذا رفضنا فنحن نواجه أحكاما حقيقية بالحبس. بمقدورهم طبعا أن يزجوا بي إلى السجن، لكن لن يصمد من هو في مثل سني ليوم واحد داخل السجن. مع ذلك، لا يسعني أن أطلب من زملائي المخاطرة بهذا الشكل، وفي الوقت ذاته ليس لي ولا أستطيع أن أذل نفسي وحركة حقوق الإنسان بقبول توصيف لا يعني في روسيا سوى شيء واحد هو أن من يحمله عميل وجاسوس وخائن لوطنه.

تستطيع السلطات، بموجب قانون الخيانة الجديد في روسيا، أن تسجن أيا منا بسبب تقديم «مساعدة» لأجانب تعتقد الحكومة أنها «تضر» بالأمن القومي. لا أعرف ما إذا كانت وكالة الاستخبارات الروسية تعتزم بالفعل سجن نشطاء حقوق الإنسان باعتبارهم خونة أم لا، لكنني أعلم يقينا أنهم معنيون بنشر رسالة في أنحاء البلاد مفادها أننا جميعا ينبغي أن نوقظ غريزة الخوف والقلق من الأجانب المنسية في أعماقنا والتي تعود إلى عصر الاتحاد السوفياتي. ويشمل هذا الأفكار «الأجنبية» عن الحرية والديمقراطية، واستخدام المسؤولين بأريحية سلاح التجريم لتهديد وإخراس المنتقدين.

يبدو الكرملين مستأسدا هذه الأيام، حيث يتم توبيخ المعارضة وحركة الاحتجاجات تقريبا بشكل يومي. ويوصف المجتمع المدني يوميا بأقذع الكلمات. وتستخدم الحكومة التلفزيون وكذلك «تويتر» ومواقع التواصل الاجتماعي وأذرعها الأخرى في إعادة إنتاج خطاب حقبة الاتحاد السوفياتي وإثارة هوس الخوف من الأجانب. يهطل على الناس وابل من عبارات التعجب الرسمية من عدم ديمقراطية ونفاق الغرب. أعتقد أن هذه الممارسات للاستهلاك المحلي وإرضاء قاعدة بوتين من المحافظين، لكنها أيضا تمثل محاولة من القيادة السياسية لبسط نفوذها وحذف بند حقوق الإنسان بالقوة من أجندة الغرب تجاه روسيا. لا بد أن موقف قادة الاتحاد الأوروبي تجاه حقوق الإنسان، خلال لقائهم بوتين في بروكسل يوم الجمعة، كان صارما. ومن المرجح أنهم طالبوا بوضع حدا لهذا التنكيل. على الاتحاد الأوروبي عدم التعامل مع قضية حقوق الإنسان على أنها قضية هامشية، بل رئيسية، ولا يجب عليه انتقاء الكلمات الناعمة. لا توجد قضية تستحق المناقشة مع القيادة الروسية أهم من قضية مستقبل حكم القانون في دولة الجوار والشريك الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي. ما زالت القوانين الجديدة والخطاب الجديد في المراحل الأولى، ولا بد أن يلغى كل ذلك. إنها لن تكون بالتأكيد محادثة لطيفة، لكن رغم صعوبة مواجهة بوتين في ما يتعلق بحقوق الإنسان اليوم، حاول تخيل كيف ستكون حال مناقشة مثل هذه القضايا بعد بضع سنوات من الآن عندما يصبح التنكيل أكبر أو يحدث انفجار اجتماعي حقيقي بسبب ذلك النهج القمعي. سيتذكر كثيرون هذه اللحظة ويتساءلون عما فعلته أوروبا عندما كان المدافعون عن حقوق الإنسان بحاجة إليها.

* مؤسسة ورئيسة «موسكو هلسينكي غروب» أقدم منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان في روسيا

* خدمة «نيويورك تايمز»