ماذا بعد الدستور؟

TT

إذا أخذنا بالنسب التي أعلنت بشكل غير رسمي في نتائج التصويت على المرحلة الأولى من استفتاء الدستور المثير للجدل في مصر والتي جاءت بنسبة «موافق» 57 في المائة و«غير موافق» 43 في المائة، وهو ما يتوقع أن يستمر مع تعديل، صعودا أو هبوطا، لأي جانب عندما تعلن النتائج النهائية بعد المرحلة الثانية يوم السبت المقبل، فإننا أمام حالة انقسام ما زالت واضحة في المجتمع المصري بين ما يسمى بالقوى الإسلامية والقوى المدنية التي تخشى «أخونة» نظام الدولة.. فالأصل في الدستور عند كتابته أنه ينظم العقد الاجتماعي بشكل يكون فيه أكبر توافق واتفاق بين مكونات المجتمع ككل، فهو ليس انتخابات قد يفوز فيها حزب أو قوة سياسية بأغلبية طفيفة وتلتزم الأقلية بذلك على أمل أن تستطيع التغيير في انتخابات لاحقة، لكنه يعد بمثابة الأساس لعلاقة الدولة بمجتمعها وشكل العملية السياسية التي يتوافق عليها الجميع ويقبلون جميعا باللعب على أرضيته.

وهذا ما لم يتحقق في العملية السياسية الانتقالية في مصر حتى الآن، وظهر الانقسام واضحا وصداميا بدرجة خطرة قبل الاستفتاء وبعده مع مشاركة نسبة نحو 33 في المائة من الناخبين في التصويت، في حين كان يفترض أن يكون الذهاب إلى صناديق الاقتراع في تصويت على شيء حاسم كالدستور أعلى من ذلك.

الأسباب كثيرة في عملية الانقسام الحادث بين القوى السياسية وداخل المجتمع، فهناك صراع آيديولوجي حول الرؤية المستقبلية للدولة بين الأطراف السياسية من دون قدرة على الوصول إلى نقطة تفاهم والتقاء وسطية حتى الآن، والأهم أن هناك أزمة ثقة عميقة تجعل أطراف الصراع غير قادرة على تقديم تنازلات، أو أن المسار السياسي جعل هامش المناورة في التوصل إلى تسويات شبه مستحيلة.

وحتى المزاج العام في الشارع بين الناخبين العاديين يبدو منقسما، وهو ما يظهر من خلال التباين الكبير في نسب الموافقين والرافضين بين المحافظات، مع ضرورة الوقوف بتمعن على دلالات أن العاصمة القاهرة أكبر المحافظات كثافة سكانيا ومركز الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي صوتت بـ«لا»، والمتوقع أن يكون هناك قطاع كبير صوت للدستور لأنه يريد أن تسير العملية ويتحقق نوع من الاستقرار الذي يؤدي إلى تحرك عجلة الاقتصاد والأعمال.

المشكلة أن هذا قد لا يتحقق مع استمرار الصراع السياسي بهذه الحدة التي يصاحبها في بعض الأحيان أعمال عنف، فاليوم هناك مليونيات لإلغاء الاستفتاء، والسبت المرحلة الثانية من التصويت، وحتى لو مرّ الدستور وأقر فلن يكون هذا هو نهاية المطاف.

وهذا هو ما يحتاج إلى تفكير وحكمة، فماذا بعد الدستور إذا أقر بأغلبية ضئيلة؟ هل يستمر الانقسام والصدام أم هناك وسيلة أو مسار ما يمكن له تخفيف حدة الاحتقان وملاقاة الجميع في منتصف الطريق؟ المسؤولية الأكبر في ذلك تقع على عاتق من في يده مقاليد الحكم، والأهم هو أن يكون هناك رغبة في لقاء القوى الأخرى في منتصف الطريق، فقد أثبتت العملية الانتقالية بما فيها انتخابات الرئاسة واستفتاء الدستور أنه لا يوجد أحد لديه تفويض أو أغلبية كاسحة، وهو ما يجب أن تدركه قوى الإسلام السياسي التي بالغت في مرحلة ما في حجم قوتها، وبدأت تكتشف الحقيقة الآن. وهناك الكثير من الحكماء والسياسيين والقانونيين المشهود لهم في مصر والذين يستطيعون في ظل مناخ فيه قدر من الثقة أن يصححوا المسيرة وأن يرسخوا ثقافة التسويات بما يسمح أن يكون الجميع شريكا في العملية الانتقالية من دون انفراد أحد بها أو محاولة فرض آيديولوجيته على الآخرين.