غلطة كبرى

TT

خلفت الحروب الأهلية الدامية بين جنوب العراق وشماله طوال القرن الماضي وتكللت بمذبحة حلبجة التي أهلك فيها صدام حسين نحو خمسة آلاف مواطن بالغاز السام، آثارا مريرة في نفوس الكرد جعلت أكثرهم يمقتون العرب وكل شيء عربي، حتى إن بعض مثقفيهم رأوا أن حلول الإسلام محل الزرادشتية أدى إلى تراجع كردستان ومعاناتها.

شمل ذلك اللغة العربية. أصبحوا يكرهون استعمالها. أسألهم بالعربية فلا يردون عليّ أو يجيبونني بالإنجليزية. قلما تجد شابا الآن يفهم العربية التي أصبحت في المدارس لغة أجنبية مثل الإنجليزية وبنفس حصصها في الدراسة.

هذا خطأ استراتيجي خطير في رأيي ستدفع الأجيال المقبلة ثمنا باهظا له إن لم يسرع المسؤولون لمعالجته. ففي هذا الإطار سيصبح الكردي العراقي محصورا بحدود كردستان، السليمانية وأربيل. ستسد عليه أبواب الرزق والعمل والنشاط الفكري والاقتصادي لهذا العالم العربي الواسع من المحيط إلى الخليج. فلا مكانة للكردي في هذا العالم الواسع من دون اللغة العربية. سيصبح مثل الهندي أو الباكستاني أو أي آسيوي أو أفريقي غريب. وسيفضل صاحب العمل العربي الاعتماد على الأفروآسيوي فهو أرخص وأسلس. الجهل بالعربية سيقضي أيضا على حلم كردستان بالتحول إلى مصيف أو مصح لسائر العرب. سيفضلون الذهاب إلى لبنان ومصر حيث يستطيعون التكلم مع السكان.

هناك أيضا مشكلة الدراسة. فالمصادر بما فيها «غوغل» وقنوات الإنترنت والكومبيوتر لا تستعمل الكردية. حدثتني طالبة جامعية بأنها اضطرت لتكريس سنتين بعد الثانوية لتحسن لغتها العربية بما يمكنها من مواصلة دراساتها الجامعية. هذا إرهاق للتلاميذ وإضاعة وقت وأموال للدولة وتقليص لأفق الإبداع والإنتاج.

لقد تغلبت العاطفة على العقل. فالعقل يقول إن اللغة ليست أساسا للقومية أو الوطنية. فالقومية عاطفة تقوم على شعورك وإيمانك. فالصهاينة واليهود يقولون أنت يهودي إذا تعتبر نفسك يهوديا بغض النظر عن إيمانك الديني أو لغتك أو مكان إقامتك. السويسري الألماني يعتبر نفسه سويسريا ولم تجعله لغته الألمانية ألمانياً أو يتحمس لألمانيا في حروبها. الأميركي يتكلم الإنجليزية ولكنه لا يعتبر نفسه إنجليزيا. كذا الأمر مع الاسكوتلنديين. تركوا لغتهم الكلتية واستعملوا الإنجليزية ولكنهم ظلوا من أكثر الناس تحمسا لهويتهم القومية. حصلوا على استقلالهم الذاتي وسيصوتون قريبا على الاستقلال التام من إنجلترا. لم تلعب اللغة أي دور في الموضوع. كثير من الكرد الذين ناضلوا من أجل كردستان كانوا يعيشون في بغداد ولا يعرفون غير اللغة العربية.

فضلا عن كل ذلك، سيواجه السكان مشكلة ازدواجية اللغة. فليست هناك لغة كردية واحدة. في منطقة السليمانية يستعملون السورانية ويصعب عليهم فهم ما يقوله أو يكتبه سكان دهوك بالبهدينانية. لا أعرف شيئا عن المحاولات للتغلب على هذه المشكلة. ولكنني أستطيع أن أتخيل مدى الصعوبات والتكاليف التي ستترتب على المعضلة. كردستان منطقة فقيرة أساسا وليس من الحكمة تبديد ما لديها من واردات في الجري وراء العواطف والأماني قصيرة الأمد. ولكن القومية شيء لا يفهمه غير أهلها. وما أنا بواحد منهم، فآسف.