وقار الصمت

TT

يقول الإمام علي كرم الله وجهه: «إذا تم العقل نقص الكلام». وهو الذي قال أيضا: «بكثرة الصمت تكون الهيبة». والمتأمل لفضيلة الصمت يجدها نوعا من أنواع التواصل غير اللفظي التي تنم عن وجود بوادر للحكمة في صاحبها. فالحكيم أقرب إلى الصمت منه للكلام، لأنه يبحث دائما في صمته مع نفسه وإنصاته إلى الآخرين عن ضالته أو عن فكرة تنير له الطريق، ولا إنصات من غير صمت.

والصمت سياج الحكمة كما يقال، لأن كل حديث نخوضه قد يكون محفوفا بمخاطر الانزلاق نحو المهاترات أو الجدل العقيم، وذلك كان من الحكمة التأني بما نتفوه به قبل التورط في مشكلات، نحن في غنى عنها. ألم يقل سيد البشرية - صلى الله عليه وسلم - إن «أكثر خطايا ابن آدم في لسانه» [1]، ولذا قيل إن «الصمت منجاة».

ومن محاسن هذا الصمت أنه يفسح المجال للآخرين أن يعبروا عن مكنوناتهم، فلا يمكن لشخص أن يتحدث في حين أن من يقابله يحتكر الحوار كله، ناسيا أن الصمت في الحوار جزء أساسي في التواصل، لأنه دعوة غير مباشرة للآخرين بالدخول في النقاش.

ومن ثمرات الصمت أنه يمنح صاحبه فرصة التدبر في كلماته قبل نطقها، فالكلمة إذا خرجت من ألسنتنا صارت ملكا للآخرين، يمكن أن يدينوننا بها في أي لحظة.

ومن الناس من يعتقد أن من مسؤوليته الرد على كل شاردة وواردة من كلام الناس وكأنه أنيطت به مهمة إصلاح الكون، لكن واقع الأمر يؤكد أن من بين عشرات من نجالسهم نجد نماذج سلبية عدة، كالسفيه مثلا، الذي لا ينفع معه سوى أن تكرمه بسكوتك!

وعلى الجانب الآخر، فإن مشكلة الإنسان مع أولئك الذين يلوذون بالصمت الطويل، هو أن صمتهم يرفع من توقعاته تجاههم. فالصمت بطبيعته يجعلك تتوسم في صاحبه الخير، غير أن الصدمة تقع حينما يتفوه هذا الصامت بكلمات ساذجة تقلل من هيبته ووقاره، وهو ما وصفه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بقوله: «أرى الرجل فيعجبني، فإذا تكلم سقط من عيني».

ومشكلتنا كعرب أننا ترعرعنا في بيئة شفهية، ويشهد تاريخنا أننا كرمنا «أفضلنا كلاما» فعلقنا أشعارهم على أستار الكعبة، ولم نسمع أن مدرسة أو ناديا أو نقابة عربية علقت صورة أناس كانوا يتحلون.. بهيبة الصمت ووقاره!

* كاتب متخصص بالإدارة

[email protected]