الحوار بين الأديان.. كيف ولماذا؟

TT

الحوار بين الأديان ليس ترفا فكريا كما يتوهم البعض؛ بل إنه أحد المتطلبات التي يستوجبها الوجود المعاصر، وإن الأمر شديد الأهمية بالنسبة لنا؛ مسلمين عامة، وعربا (مسلمون وغير مسلمين) خاصة. أود، في حديثي اليوم، أن أسهم بجملة أفكار أسعى فيها إلى محاولة الجواب عن السؤال المزدوج: لماذا كان الحوار بين الأديان مطلوبا اليوم، وعلى أي نحو يكون الحوار (أو كما يقول البلاغيون العرب: كيف الحوار)؟

يرى البعض أن الأحرى أن يكون الحديث عن حوار بين أهل الديانات لا عن حوار بين الأديان، بل إن هناك من يعتبر التمييز جوهريا؛ بمعنى أنه يرفض مبدأ الحوار بين الأديان أو يراه على الأقل متعذرا؛ بل مستحيلا. والرأي عندي أن المعنى في الحالتين واحد، وذلك لاعتبارين اثنين؛ أولهما أن الحوار يقوم بين الأشخاص لا بين الديانات، وبالتالي بين المنتسبين إلى الديانات، وتلك إفادة البلاغة العربية حيث يكون المكان كناية عن الموجودين في المكان ومثل هذا كثير في القرآن الكريم («ولما ورد ماء مدين..». القصص 24، «واسأل القرية التي كنا فيها..». يوسف 82)، فالمقصود بالحوار بين الديانات هو الحوار بين أهل الديانات. وثانيهما أن لفظ الحوار بين الديانات هو ما درج عليه الناس في اللغات الأوروبية عامة، وبالتالي فليس من الضروري أن نتمسك بالتمييز بين الديانات وبين أهل الديانات ما دام الكل يدرك عمق التمييز ويوافق عليه، فالعبارتان تفيدان المعنى نفسه وتلتقيان عند الغاية نفسها، وإذن فلا فائدة من صرف الجهد والوقت في التشبث بهذا التمييز، والفيصل في هذا الشأن وكما هي الحال في الاستعمالات اللغوية عموما، هو الاستعمال والسماع.

نرجع الآن إلى سؤالنا المزدوج فنأخذ شقه الأول فنقول: لماذا كان الحوار بين الأديان مطلبا طبيعيا، بل ضرورة من ضرورات العصر، وكنا نرى أننا الأكثر حاجة إلى الدعوة إليه وإلى دعمه بمختلف السبل والوسائل؟

فالسبب الأول طبيعي، لأن من شأن البشر أن يتصلوا بعضهم ببعض وأن يتبادلوا الرأي والمشورة في ما كان عاما يتصل بالوجود البشري، فذلك مما يستدعيه وجوب السلم واجتناب الصراع ما أمكن ذلك. وفي هذا المعنى كان الأمر القرآني قويا واضحا: «يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..». (الحجرات 13). والسبب الثاني يتعلق بنا (مسلمين، وعربا مسلمين وغير مسلمين؛ إذ الإسلام يجمع بيننا بحسبانه حضارة وتراثا روحيا ثقافيا مشتركا بين الجميع)، فالإسلام هو الديانة الثانية من حيث العدد، فالمسلمون يتجاوزون خمس سكان الكرة الأرضية، والإسلام منتشر في القارات الخمس كلها، وهو الديانة الثانية، عدديا أيضا، في أوروبا، ونسبة المسلمين إلى عدد السكان تصل في فرنسا إلى العشرة في المائة تقريبا، وهي في ألمانيا تتجاوز الخمسة في المائة، والمسلمون في البلدين المذكورين (والشأن نفسه في دول غيرهما مثل هولندا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا وبعض من دول أوروبا الشمالية، فضلا عن دول بأكملها في أوروبا الوسطى وفي أجزاء مما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي) مواطنون مقيمون وليسوا مهاجرين كما كانوا عليه قبل بضعة عقود، فهم فرنسيون أو بلجيكيون أو هولنديون أو بريطانيون.. وغير ذلك، وأيا كانت المشكلات العديدة التي تتعلق بالاندماج في المجتمعات الغربية (ما اتصل منها بالقبول من قبل الساكنة الأصلية، وما تعلق بقدرة الأجيال الثانية والثالثة؛ بل والرابعة حاليا على الاندماج ثقافيا في المجتمع الغربي) فإن هذه الفئة من المواطنين في البلدان المشار إلى بعضها لهم نصيب في تنظيمات المجتمع المدني والمجتمع السياسي. وفي جوف هذه الجدلية تبرز مسألة الإسلام النوعي في تلك البلدان، وبالتالي، فإن هناك تقابلا طبيعيا في العمق يغدو بين المنتسبين إلى الإسلام ومواطنيهم من أهل الديانات الأخرى (والمسيحية بمكوناتها الكاثوليكية والبروتستانتية والأنجليكانية) فضلا عن أقليات دينية أخرى. وهنالك أمر لا سبيل إلى استصغار شأنه: هنالك في المجتمعات الغربية اليوم نوع من العودة القوية إلى «الديني» في عمق الدول اللاييكية ذاتها، لا بل إن اللاييكية ليست بعد شاملة في بلد اللاييكية الأول وهو فرنسا ما دامت مناطق كبيرة من فرنسا لا تخضع كلية لمقتضيات الفصل التام بين المجالين الديني وغير الديني؛ وبلغة علماء الاجتماع لا يزال الدين حاضرا بقوة في الدائرة العمومية، والحال أن المفروض فيه في بلد اللاييكية الأول أن يكون محصورا في دائرة الخاص. وفي هذا الاستطراد أقصد أمرين يتصلان بموضوعنا اتصالا كبيرا؛ أولهما أن للحوار الحتمي بين أهل الديانات في بعض ما أشرت إليه من البلاد الأوروبية سمة لا سبيل إلى إنكارها، وأن على دعاة الحوار بين أهل الديانات أن يأخذوها بعين الاعتبار. والثانية أن هذه «العودة» إلى «الديني» تستدعي حوارا بين الديانات، الحامل عليه هو التوقع والقيام بنوع طبيعي من استباق الأحداث كما يستلزم ذلك الوجود البشري المعاصر.

إذا لم نكن، بكل تأكيد، قد أحطنا بكل الأسباب التي تجعل الحوار بين أهل الديانات أمرا يكاد يرقى إلى مرتبة الضرورة أحيانا وليس في الأحوال كلها من قبيل لغو الحديث أو الترف الفكري، فنحن قد عرضنا للمبررات الكبرى والدوافع الأساسية. فعلينا الآن، في جمل قصيرة، أن نقول شيئا في ما نحسب أنه بروتوكول الحوار أو مقدماته على الأقل.

غني عن البيان أن الحوار لا يستهدف الدعوة التبشيرية، من الأطراف جميعها، فأيا كانت الصيغ والمبررات، فإنها تبعد بنا عن القصد، فضلا عن كونها تشوش على الحوار وتسفهه.

ثم لا حاجة لنا إلى القول إن الحوار الجاد والمأمول ينبغي أن يصرف النظر عن الماضي المشترك بين الديانات جملة وتفصيلا، فذاك التاريخ لا يخلو من الأحداث الجسام ومن الخصومات التي من شأنها أن تفرق لا أن تجمع وتوحد.

من جهة أخرى، على الحوار الجاد والمسؤول أن يبتعد كلية عن القضايا التي تسمى في الأدبيات المسيحية والغربية عموما «لاهوتا» و«فكرا لاهوتيا»، وهي عندنا موضوعات علم الكلام أو أصول الدين. وبالتالي، يلمنا أن نقصي من دائرة التفكير القضايا التي تتعلق بالعقيدة والمعتقدات.. ذلك أننا لسنا في هذا الحوار الديني في معرض الاحتجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، فلسنا نريد أن ننتصر لمذهب دون غيره من المذاهب الكلامية، ولسنا نريد الانتصار لديننا على ديانة أو أخرى. ليس من شأن الحوار أن يفتح الأبواب التي تؤدي إلى الخوض في المختلف فيه. غير أنه من المنطقي ومن الطبيعي أيضا أن نعرف مواطن الاختلاف بيننا وبين الديانات الأخرى. لنا، إن شئنا، أن نستفيد من درس متكلمة الإسلام الكبار في الشطر المتعلق من كلامهم ببسط آراء الخصم بالتلخيص والعرض الموضوعيين. وبالتالي فعلينا أن نعمل على اكتساب فضيلة الاستماع واجتناب ما ينعت بـ«حوار الصم». ومرة أخيرة نقول إن في الإمكان أن نفيد من تراثنا الفكري الإسلامي الفائدة العظيمة في هذا الباب متى صح العزم وخلصت النوايا.