الدين بين السياسة ومدنية المجتمع

TT

نشرت مصلحة الإحصاء القومي أرقام التعداد الرسمي لبريطانيا لعام 2011 بتغيير ملحوظ في التركيبة الاجتماعية الديموغرافية.

سكان البلاد الأصليون أصبحوا أقلية في لندن، فالأغلبية ولدوا خارج بريطانيا. اتفاقيات الاتحاد الأوروبي أدت إلى فيضان من مهاجري أوروبا الشرقية اقتنصوا وظائف الإنجليز ويزاحمونهم في الخدمات الأساسية، مع تحويل فائض أجورهم إلى بلدانهم الأصلية بدلا من إنفاقها على سلع بريطانية.

المناهضون للفيدرالية الأوروبية يتهمون حكومة العمال الاشتراكية (1997 - 2010) بفتح الحدود بلا ضوابط أمام مهاجرين لا يعملون في إنتاج صادرات تؤثر إيجابيا على ميزان المدفوعات، بل في قطاعات الخدمات الاستهلاكية (المملوكة لشركات متعددة الجنسية تتهرب من الضرائب) ترفع معدلات التضخم فتخفض قيمة الإسترليني.

اخترت أرقاما توضح علاقة الفرد بالدين في زمن يلاحظ فيه القراء تسييس الدين على يد جماعات ادعت أن دورها التبشير الديني، بينما فعليا تحاول إدخال مجتمعات كانت تقليديا منفتحة متسامحة إلى القفص الحديدي للديكتاتورية الثيوقراطية.

بعد اختطافهم للثورة الروسية لم يرفع البلشفيك شعارات المساواة، بل كانوا صادقين مع المجتمع بإعلان غاية «ديكتاتورية البروليتاريا» وتبريرهم أن القاعدة الشعبية للطبقة العاملة تمثل الأغلبية.

غاية الإسلام السياسي (الإخوان وفروعهم بأسماء متعددة) ليست الديمقراطية أو المساواة، بل السياثيوقراطية، (ديكتاتورية النخبة المؤدلجة للدين السياسي). مبرر مكتب الإرشاد (كالمكتب السياسي لأي حزب شمولي كالشيوعي أو النازي الألماني أو الفاشي الإيطالي) أن ديكتاتورية المرشد (المقابل السني لولاية الفقيه؟) تمثل الأغلبية التي دينها الإسلام (مع احتكارهم للتفسير دون استطلاع لرأي الأغلبية).

«الأغلبية» بسطاء بلا أدوات معرفة ذهنية تكشف زيف مشروع الإسلام السياسي. «المثقفون» يتقاعسون عن دورهم نفاقا أو خشية اتهام بلاشفة الديكتاتورية الثيوقراطية لهم «بمناقضة الشريعة».

قراءة نتائج التعداد تشرح صعوبة نجاح مشروع الدين السياسي في بريطانيا للأسباب نفسها التي لم تؤجج ثورة البروليتاريا التي توقعها كارل ماركس (صاغ نظريته في بريطانيا القرن الـ19).

في بلدان كمصر تضافر الفقر مع انعدام التعليم لينسكب الدين خارج وعاء الإيمان الفردي ويصبح مثبتا للوجود (كمرساة القارب) لكن مثبت الحركة يعوق التقدم أيضا. الفقراء، كأغلبية ساحقة، ارتبطت الأعمال الخيرية المؤقتة في ذهنها، بشرطية بافلوفية، بالدين. جمعيات معظمها يتبع الإخوان (بتمويل هائل من الخليج، خاصة قطر) توفر ملابس العيد للأطفال (بتكلفة لا تذكر في إطار المال المتدفق بلا حساب) أو تموين شهر من السلع الأساسية، فتصبح «الحل الإسلامي» حسب الشعار.

الحقيقة هي استحالة رسم ميزانية يمولها المزاج الشخصي لداعمي برامج التحريض في قنوات كـ«الجزيرة» مثلا. فدعم ولو واحد في المائة لسلعة يتطلب زيادة ضرائب سيعتبرها الفقراء «كفرا» لا حلا.

الرشوة الاقتصادية المؤقتة باسم الدين يصعب أن تخدع مواطنا في بلد كبريطانيا، حيث قال 33 مليونا و200 ألف (59 في المائة من السكان) إنهم يدينون بالمسيحية (بمذاهبها وكنائسها المختلفة)، بينما كانت النسبة 71.7 في المائة عام 2001.

ارتفع عدد من لا يتبع دينا أو لا يعتقد في نظرية الخلق من 14 في المائة عام 2001 إلى ربع عدد السكان في 2011، بينما ترك 7 في المائة خانة الدين فارغة في الاستمارة.

الأديان بالترتيب العددي: المسيحية (الأكثرية الإنجليكية، فالكاثوليكية فالمعمدانية، ففروع أخرى)، يليها الإسلام (مليونان و700 ألف أو 5 في المائة من السكان) فالهندوسية، فالسيخ، فاليهودية، فالبوذية، ثم مجموعات أقل من 1 في المائة من السكان كالبهائيين والزرادشتيين والكونفوشيوس والراستافاريين ومئات المعتقدات الوثنية والطبيعية.

الطريف أن الجديايين (القوة الذاتية للكون والتي ظهرت في فيلم ستار وورز «حرب النجوم» كفلسفة الخير ضد الشر «القوة المظلمة») أدرجت «ديانة» رسمية في وزارة الداخلية البريطانية بعدما ذكرت كديانة في 390 ألف استمارة في تعداد 2001، لتصبح أكثر وأسرع العقائد نموا؛ ويستحيل التأكد كم من الـ390 ألفا جادون حقا (لا يعرف أحد ما هي شعائرها) فالبريطانيون يكرهون دس الحكومة أنفها في أمور شخصية فيردون ساخرين بإجابات عبثية.

اعتراف الإنجليز بعقيدة رسميا يختلف عن المفهوم نفسه عند العرب، فلا تملك أي جهة بريطانية حق التدخل منعا أو إباحة في شعائر أي دين، وبناء دور العبادة لا يحتاج إذنا سوى ما يتعلق بتصريحات البناء المدني كالمسكن ومأرب السيارة. ما يهم أتباع عقيدة من الاعتراف الرسمي بها هو التسجيل في المفوضية الملكية للجمعيات الخيرية والهدف مادي للإعفاء من الرسوم والضرائب وصلاحية جمع التبرعات علنا والحصول على تمويل من وزارة المعارف لإنشاء مدارس بحجة تعريف أبناء المؤمنين بالعقيدة بتعاليمها.

يتجاوز عدد الديانات المسجلة رسميا الـ200 وأكثر من 500 عقيدة أخرى في انتظار التسجيل الرسمي يتجاوز عدد ممارسي كل منها، حسب تعداد 2011، المائة ألف.

عقائد كالجيدية والدرويديز (الأقدم في بريطانيا كشعائر وثنية في مناسبات منتصف الفصول وكانت إيمان الأغلبية قبل دخول المسيحية مع الرومان) لا يبني أتباعها دورا للعبادة فطقوسهم تمارس في أحضان الطبيعة كالبحيرات وقمم الجبال، ولا يمارسون التبشير.. لكن عقائد وأديان الأقليات (الإسلام واليهودية والبوذية واليزيدية والكونفوشيوسية.. إلخ) يتزايد عدد أتباعها بالتبشير أو بارتفاع المواليد بين المهاجرين، وهناك تزايد ملحوظ في بناء المساجد والمعابد والمدارس التابعة لها. ورغم التناقص المستمر في أعداد المترددين على الكنيسة الإنجليكية كدين الأغلبية، يلاحظ ارتفاع عدد المترددين على الكنائس التي تتبعها مدارس ابتدائية. وأشار التعداد إلى زيادة 50 في المائة في عشر سنوات في عدد التلاميذ غير المسيحيين في هذه المدارس التي تعطي الأولوية (لكن لا تشترط) لأبناء المترددين على الكنائس. ويعترف الآلاف بأنهم غير مسيحيين، لكنهم يحضرون صلاة الأحد من أجل إلحاق الأولاد بالمدرسة. الكنيسة الإنجليكية ترحب بالزواج المختلط إذا قال أحد العروسين إنه مسيحي بصرف النظر عن عقيدة الشريك (يستحيل التأكد من ديانة الفرد، فلا توجد في بريطانيا بطاقة هوية وتخلو الأوراق الرسمية كشهادة الميلاد وجواز السفر ورخصة القيادة من خانة الدين) «بمباركة الزواج في دار الرب أفضل من الزواج المدني». أغلب هؤلاء غايتهم إلحاق الأولاد بمدرسة الكنيسة المجانية بمستوى تعليمي أفضل من مدارس وزارة المعارف مع ارتفاع نفقات المدارس الخاصة.

الخلاصة أن التعداد بين أنه رغم غزو الثقافة الأجنبية وتعدد الأديان تبقى البنية التأسيسية للمجتمع البريطاني مستقرة بسبب غياب أي دور سياسي لدين الأغلبية الذي يقتصر على أعمال الخير في إطار أخلاقي عام تسامحي يدعم ويقبل ويرحب بنمو وتعدد الأديان الأخرى ولو على حساب الدين الرسمي لدولة ملكتها هي أيضا رأس الكنيسة الإنجليكية.