الغرياني والأزهر

TT

لم يكد رئيس اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور المصري، الإخواني المعروف، حسام الغرياني، ينهي سلق الدستور الإخواني بمصر على الهواء مباشرة في لهاث غريب وضغط رهيب على البقية الباقية من اللجنة التأسيسية للدستور التي لم تنسحب، حتى شد رحاله لقطر أثناء احتدام معركة الاستفتاء على الدستور داخل مصر ليلقي ندوة على هامش معرض الكتاب، وعلى العموم فقد أصبح معلوما أن قطر هي محجة «الإخوان» منذ أمد يأتون إليها رغبا ورهبا.

ألقى الغرياني هذه الندوة تحت عنوان «الأحزاب والدستور في القرآن والسنة»، وهو عنوان معبر يمكن استخدامه نموذجا لحجم التناقضات في الخطاب الإخواني، فقد كان «الإخوان» يعتبرون القرآن هو الدستور كما يقول شعارهم القديم: «القرآن دستورنا»، وقد أصبحوا اليوم يفتشون عنه في الكتاب والسنة، ويصرحون في الآن نفسه بأنهم قد كتبوا دستورا مدنيا لا دينيا!

وهذه طريقة إخوانية تليدة تقوم على تعمية المفاهيم الواضحة وطرحها بمعان متناقضة اتقاء لأي لوم أو محاسبة ومحاولة لخداع كل التيارات، وقد عبر عن مدنية الدستور - كذلك - الإخواني الأعرق يوسف القرضاوي في تعليقه على الندوة، حيث انتقد أنهم لم يذكروا في الدستور الإخواني المدني الديمقراطي اسم الرسول الكريم، وربما لولا شيء من الحياء لقال والصحابة والفقهاء وحسن البنا وسيد قطب.

إن الدستور حين تصنعه الآيديولوجيا، ويدفع باتجاهه الدين، ويرفده استغلال المسجد والمصحف، وتستدعى فيه الآثار والمرويات الدينية والتراثية يمكن نعته بأي نعت إلا أن يكون دستورا مدنيا، نعم، يمكن تسميته الدستور الغيابي، بمعنى أنه صنع في ظل غياب وتغييب للوعي، وغياب وتغييب للشعب، وغياب وتغييب للفرقاء السياسيين ولبقية أطياف الشعب سوى الأصوليين.

مؤسف حد الأسى أن مصر التي رمت يوما دستورا في القمامة (وهو دستور سنة 1954 الذي تعبت عليه 50 شخصية عامة منها عبد الرزاق السنهوري، وهو من أرقى الدساتير المصرية، وقد رفضه عبد الناصر فظل مهملا إلى أن عثر عليه الباحث والصحافي صلاح عيسى صدفة في أحد الأرشيفات في مكتبة الجامعة العربية وعمل عنه دراسة ضافية) تعود اليوم لتستفتي على دستور كتبته فئة واحدة وطيف واحد من شعب متعدد الأديان والطوائف والمذاهب والتيارات الفكرية والسياسية.

«الإخوان المسلمون» لا يعون حقا ما معنى الدستور، فهم يحسبونه معركة داخلية يجب حسمها بالأصوات فحسب، ولا يدركون أنه يجب أن يكون معبرا عن كينونة وطن وهوية شعب، وطموحات مكوناته، وأن يكون ضامنا لمستقبل أزهى وأفضل، إنهم يحسبونه معركة انتخابية تحسم بحشد الأصوات في صناديق الاقتراع كما هو حسبانهم لمعنى الديمقراطية من قبل، ولكن الجديد اليوم أن بعض من انخدعوا بهم سابقا ووافقهم على التقديس المطلق لأرقام الصناديق عرفوا عند معركة الدستور حجم الزيف الذي خاتلهم به «الإخوان المسلمون».

يحاول «الإخوان» التبرؤ من «سلق الدستور» وطبخه على عجل بكل سبيل، وربما كان هذا صحيحا ولكن من وجهة نظر «الإخوان» أنفسهم، ذلك أنهم تأنوا فيه بقدر ما يجعله دستورا يضمن مصالحهم ومستقبلهم السياسي والاجتماعي في البلاد، لا مصالح البلاد ذاتها ولا مصالح كل المواطنين.

تحدث السيد الغرياني عن مادة جديدة كليا أضافوها في الدستور الجديد وجعلوها المادة الرابعة في الفصل الأول من الباب الأول وهي المادة المتعلقة بالأزهر، وقال: «نحن ذكرناه في المقومات السياسية للدولة لأن الأزهر طول حياته كان له دور سياسي، (هوّا) أحد كان يقدر يكلم المماليك إلا شيخ الأزهر؟!».

قبل التعليق على حديث السيد الغرياني يجدر التذكير بنص المادة محل الحديث، إذ تقول هذه المادة: «الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شؤونه، ويتولى الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم»، وفيها «شيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل».

وأود هنا مناقشة تعليق السيد الغرياني حول تاريخ الأزهر في عدة ملاحظات: أولا ما ذكره من أن «الأزهر طول حياته كان له دور سياسي» هو كلام غير صحيح تاريخيا، فالأزهر أنشأه الفاطميون لتشييع المصريين ضمن مشروع كبير وفشلوا في ذلك فشلا ذريعا، ثم أغلقه الأيوبيون إغلاقا شبه كامل بأمر صلاح الدين ولما يقارب المائة عام، ثم جاء المماليك فكانوا يستتبعون شيوخ الأزهر وغيرهم من الفقهاء استتباعا شبه كامل، وقد ذكر ابن حجر في كتابه «الدرر الكامنة» كيف أن الفقهاء كانوا كلما نزا مملوك على مملوك فقتله يذهبون للقاتل لتقديم فروض الولاء والطاعة، بعد ذلك، أشار الأستاذ حلمي النمنم في كتابه «الأزهر: الشيخ والمشيخة» أن شيخ الأزهر في العهد العثماني كما كان يتم تعيينه من قبل الوالي فإنه يتم عزله من قبله كما قد يعاقب بنفي ونحوه. هذا حديث التاريخ، أما حديث السيد الغرياني فهو مستمد من أساطير «الإخوان» وأكاذيبهم حول بعض الفقهاء والسلاطين في التاريخ الإسلامي.

حسنا، ولكن ما علاقة هذه المادة بصعود «الإخوان» السياسي ومحاولة استحواذهم على كافة مؤسسات الدولة؟ إنها باختصار تؤكد سعي «الإخوان» المستميت لأخونة الأزهر عبر أزهرة بعض «الإخوان»، فالسيطرة على مؤسسة الأزهر هي خطوة قادمة لـ«الإخوان المسلمين» ولهذا فهم يحمونها بالدستور منذ الآن، وسيرى الجميع ذلك في قابل الأيام، وهذا مجرد مثال على تلاعب «الإخوان» بالدستور.

في آخر تعليق على الندوة ذكرنا يوسف القرضاوي بعدة أمور منها أن الدستور الإخواني هو «أعظم دستور صنعته مصر بل من أعظم الدساتير في العالم كله»، وكم كان حريا به لو تذكر دستور 1954 حتى يستطيع ضبط عباراته المرسلة.

سلق «الإخوان» دستورا في أشهر معدودة وفي ظروف مضطربة، بينما أمضى أكبر فقهاء وصناع القوانين الحديثة عربيا عبد الرزاق السنهوري اثنا عشر عاما (1937 - 1949) في صناعة القانون المدني المصري، وهو ما أشار إليه في مذكراته بقوله:

«إني ختمت بذلك القانون عهدا قد مضى وبدأت عهدا

وأقمت للوطن العزيز مفاخرا وبنيت مجدا».

(السنهوري من خلال أوراقه الشخصية) ص30

أمر أخير وهو أن القرضاوي ذكرنا بأن حسام الغرياني كان مرشح «الإخوان» الأول لرئاسة الجمهورية وحين رفض اضطرت الجماعة لترشيح بديل له هو خيرت الشاطر ثم بعد ذلك انتهى بها الأمر لبديل البديل وهو الرئيس الحالي.