زحام أمام شباك التذاكر.. ولكن الفيلم رديء

TT

شتاء عام 1954، السنة النهائية في مدرسة دمياط الثانوية.. لن أحضر الحصة السادسة ولا السابعة، على أن أذهب إلى سينما «اللبان» فورا؛ ليس لأَحضر فيلما، ولكن لأفتح شباك التذاكر، فأنا عامل الشباك المسؤول. صاحب السينما ومديرها هو سي عبده اللبان، وهو شخص صارم لا يكف عن الحركة.. في طريقه إلى داخل السينما يقول لي بصوت مسموع: «راجع النِمَر»..

النِمَر جمع نِمْرة، والمقصود بالطبع هو أرقام التذاكر.. هذا ما قد يفهمه أي شخص، أما أنا فأعرف المعنى المطلوب والمتفق عليه.. المطلوب هو أن أبطئ حركة بيع التذاكر لكي يتجمع عدد من الزبائن أمام الشباك، وبذلك يرى المارة في الشارع أن هناك جمعا من البشر حول شباك التذاكر مما يعطيهم انطباعا قويا بأن الفيلم المعروض فيلم جيد يتزاحم الناس لمشاهدته. أعتقد أن عملية الخداع هذه كانت أحد تدريباتي الأولى لصنع الدراما.. لا بد أن أتباطأ في عملي بغير أن يكون ذلك واضحا للمتفرج، وذلك بافتعال حوار يبدو سببا مقنعا للبطء في قطع التذاكر.. قلت لي عاوز كام تذكرة؟ تذكرة واحدة.. هو حضرتك دفعت كام؟ مش دفعت عشرة صاغ؟ لأ دفعت ربع جنيه. متأكد إنك دفعت ربع جنيه؟ أيوة. طب ما تزعلش.. أنا بسألك بس.. إنت فاكر لا سمح الله إني بَشُكّ فيك؟ عاوز تذكرة بلكون؟ لأ صالة. أُمّال قلت بلكون ليه؟ والله يا أخي أنا ما قلت بلكون، أنا قلت لك صالة.. فيه إيه مالك؟ مماليش ولا حاجة.. تفتكر مالي يعني.. اتفضل خد التذكرة أهي.

ولكن حتى هذه الحكاية لن تنجح في إنقاذ الفيلم الرديء الذي تعرضه السينما، لأن هذه الحشود نفسها التي ظنت أنه فيلم جيد، ستخرج منه ساخطة تحذر الآخرين من مشاهدته.

في الفن والسياسة لا يمكن إخفاء العروض الرديئة. كما أن مراجعة النمر في الفن والسياسة بأكثر الوسائل خداعا ستنجح فقط في تأجيل الاعتراف بالفشل. بعدها على أصحاب الفيلم أن يتفرغوا لمعالجة آثاره على المتفرجين.

إن فيلم «الدستور» الذي يعرض منذ شهور طويلة، لم يكن فيلما رديئا فقط؛ بل تسبب في حالة من الغضب والعصبية دفعت المتفرجين جميعا لأن ينهالوا ضربا بعضهم على بعض. كاتب سيناريو فيلم «الدستور»، أو بالأحرى كتّابه، ومخرجه أو مخرجوه، يستحقون دخول موسوعة «غينيس» بوصفهم أول مجموعة في التاريخ تقدم عملا قادرا على تحويل الناس جميعا إلى أعداء بعضهم لبعض. كل ذلك حدث من أجل تحقيق هدف واحد اسمه «اللاشيء». أنا على استعداد - صادقا وجادا - لأن أراهن من يشاء بأي مبلغ يشاء - في حدود مرتبي الشهري من هذه الجريدة - على أن مواد الدستور المعترض عليها، لا تحقق لرجال السلطة في مصر ما يتوهمونه من مكاسب سيتمكنون من تحقيقها مستقبلا، كما أن المخاوف التي تثيرها في قلوب المتخوفين منها هي أيضا أوهام.. لنأخذ على سبيل المثال مادة واحدة؛ وهي تلك التي تشرك الدستور مع القانون في العقوبة الجنائية، فالأصل في الأمور أنه لا عقوبة إلا بنص في القانون، وأن الدستور لا شأن له بذلك. والمعترضون هنا يقولون إن المادة بشكلها الراهن تتيح للسلطة أن تعاقب من تشاء مستندة لمواد في الدستور، خاصة تلك التي تتعلق بالدين، وهو ما يتيح لها عمل شرطة أخلاق، أو ميليشيات تابعة لبعض الأحزاب تحت ستار أنها تابعة للمجتمع. ربما يكون هذا هو ما يفكر فيه كتاب السيناريو بالفعل، وربما يكونون قد خاضوا معركتهم وما زالوا يخوضونها لتحقيق ذلك. ولكن، واقعيا وفعليا، كل هذه الأمور غير قابلة للتحقق لسبب بسيط هو أن المخرج سيذهب إلى البلاتوه فلا يجد ممثلا أو ممثلة واحدة ولن يجد الديكور منصوبا، كما لن يجد المصورين ولا مدير التصوير.. لن يجد أحدا ينفذ له السيناريو. لم يحدث في التاريخ أن تمكنت سلطة من حكم شعب ما بغير قوى اجتماعية تستند إليها، لا أحد من قبل حكم شعبا مستندا إلى جماعة أو جماعات دينية. لا بد من مخازن إمداد وتموين لكل سلطة، كان لدى عبد الناصر العمال والفلاحون، والسادات كان لديه مشروعه للسلام، وطبقة رجال الأعمال، والاتجاه نحو الديمقراطية والحرية الاقتصادية، أما مبارك فقد انشغل فقط بأن «يبقى الحال على ما هو عليه»، وكان من الممكن أن يحكم إلى أن يتوفاه الله لو أنه لم يقترب من حكاية التوريث التي فجرت الغضب في قلوب المصريين جميعا.. ولكن إلى أي قوى اجتماعية تستند السلطة الحالية في حكمها للبلاد؟ هل هم رجال الأعمال الذين يصفّون مشاريعهم كل يوم؟ هل هم العمال الذين لا يجدون عملا؟ هل هم الفلاحون العاجزون عن الفلاحة؟ هل هي ما كنا نسميه «الرأسمالية الوطنية»؟ هل هم المثقفون؟ حتى من انضم منهم لتشكيلات السلطة في إطار العمل الثوري، خرج عليها بعد أن اكتشف عجزها عن تحقيق أية مكاسب له أو لمصر؛ البلد والشعب. السلطة الحاكمة الآن لمصر تستند في وجودها لشرعية صندوق الانتخابات فقط، وهو الأمر الذي ما زال المصريون يحترمونه حتى الآن. لقد اختارت الناس الرئيس مرسي ليحكمها وليس لهدف آخر، والحكم هو الوصول إلى السلطة والاضطلاع بها، فهل استطاع الحكم في مصر الاضطلاع بالسلطة؟ هل استطاع أن يمسك بأصابعه الخيوط التي توجه كل سلطات المجتمع في نعومة وانسجام.

الرئيس المصري عضو جماعة الإخوان المسلمين المصرية، ربما تجد أن الجماعة ستكون سندا له في الحكم، ولكني أطالبك بأن تدقق في الصورة جيدا فربما تكتشف أن وجود الجماعة كان السبب الوحيد في عجز الرئيس عن الاضطلاع بالسلطة.. أي خطأ ترتكبه أي قيادة في الجماعة يتم تحويله فورا على الرئيس.. هكذا أصبح مطالبا بالدفاع عن نفسه ليس ضد الغير فقط؛ بل ضد الجماعة أو في مواجهة الجماعة.

على الرئيس المصري أن ينسى أنه عضو في الجماعة أو كان عضوا بها.. لو أنه فكر في ذلك للحظات، لذهب بنفسه بصحبة حرسه الجمهوري ودخل مع قضاة المحكمة الدستورية إلى مبنى المحكمة. شرعية الرئيس لا تفوقها شرعية في البلاد، وعليه أن يستخدم هذه الشرعية في إعادة الشرعية إلى البلاد. وإذا لم يكن هناك في مصر من هو قادر على فك الحصار حول مدينة الإعلام والإعلاميين، فمن المؤكد أنه يوجد الرئيس، رأس البلاد ورأس الشرعية، ولو أنني كنت أعمل مستشارا له ولو لخمس دقائق فقط، إذن لأشرت عليه بأن يقف في البلاتوه في التلفزيون المصري أمام الكاميرات، وأن يطلب الشيخ حازم تليفونيا ويقول له: «بوصفي رئيسا لهذا البلد.. أنا أصدر لك الآن أمرا بأن تصرف رجالك الموجودين الآن أمام مدينة الإنتاج الإعلامي».. وأعتقد أن ساعة واحدة كافية لتنفيذ ذلك.

كلمة أخيرة عن علاقة الرئيس بالجماعة.. لا مفر من الاستعانة بمقولة شعبية قديمة وهي أن «المصايب ما بتجيش إلا من القرايب»، وهناك بالطبع ذلك الدعاء القديم الذي نطلب فيه من الله سبحانه وتعالى أن «يحمينا من أصدقائنا، أما أعداؤنا، فنحن كفيلون بهم».