استقالة.. ورسالة!

TT

صباح اليوم، سوف ينظر المجلس الأعلى للقضاء في مصر، في استقالة النائب العام، المستشار طلعت عبد الله، الذي كان قد تقدم بها مساء الاثنين الماضي، وطلب في صيغتها المكتوبة بخط يده، والتي تداولتها الفضائيات لحظة كتابتها، من المجلس، أن ينظر فيها خلال جلسته المنعقدة هذا الصباح.

والغالب أن يقبل المجلس الاستقالة، وأن يعود «عبد الله» إلى عمله في القضاء، وأن يجري البحث عن نائب عام جديد، بعد أن أصبح النائب العام المستقيل هو صاحب أقصر مدة يقضيها رجل مثله في هذا المنصب الرفيع!

وأغرب ما قيل، بعد الاستقالة بدقائق، جاء على لسان المستشار أحمد مكي، وزير العدل، الذي قال بأن «عبد الله» كان قد أسر إليه، بعد تعيينه مباشرة، بأنه، أي النائب المستقيل، غير راض عن الطريقة التي جاء بها إلى منصبه!.. ولا بد أن السؤال الذي يطوف بالذهن على الفور، في هذه الحالة، هو: ولماذا إذن، بقي الرجل في المنصب، وهو غير راض، عن الطريقة التي جاءت به إليه؟ خاصة أن المستشار أحمد الزند، رئيس نادي القضاة، كان قد وجه إليه رسالة عبر وسائل الإعلام، بعد قبوله المنصب بأيام، راجيا إياه فيها أن يعتذر عن الموقع، أفضل؛ لأنه، كنائب عام وقتها، لم يكن هو وحده الذي لم يرض عن الطريقة التي جاء بها، وإنما الشارع السياسي كله في القاهرة كان قد استهجن تلك الطريقة، وأنكرها، وأذهله أن تبلغ جرأة الدكتور محمد مرسي على القضاء، حد تعيين نائب عام جديد، قفزا فوق قانون السلطة القضائية، وانتهاكا له، كما لم يحدث من قبل، من جانب أي رئيس مصري!

وقتها، تمنى العقلاء في البلد لو أن النائب العام الجديد استجاب لرجاء المستشار الزند، واعتذر عن منصبه، وهو ما لم يحدث مع الأسف، إلى أن فوجئ الرجل، مساء الاثنين، بالمئات من رجال النيابة العامة يحاصرون مكتبه، ويطالبونه بالرحيل، ويصممون على رحيله، ويهددون بالاعتصام أمام المكتب حتى يرحل، وهي سابقة أولى من نوعها في تاريخ النيابة العامة المصرية!

وقد كان هناك سببان أساسيان وراء محاصرة المكتب، أحدهما عام بالنسبة لرجال النيابة العام، والآخر خاص.

أما الأول، فهو أن قانون السلطة القضائية في مصر يقضي بأن من حق رئيس الجمهورية أن يعين النائب العام في منصبه، ولكن بعد استشارة المجلس الأعلى للقضاء، وليس قبلها، وهو ما لم يحدث في حالتنا هذه؛ إذ فوجئ الجميع، يوم 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بقرار من الدكتور مرسي بعزل النائب العام الموجود في المنصب، في حينه، المستشار عبد المجيد محمود، وتعيين المستشار طلعت عبد الله في مكانه. وما إن صدر القرار حتى ثارت ثائرة رجال القضاء، ومعهم كافة القوى السياسية الليبرالية، لا لشيء، إلا لأن الرئيس كان قد جرب قبل ذلك بأسابيع عزل عبد المجيد محمود، بغتة، فلما تبين له أن قراره خاطئ، وأن الدنيا قامت بسببه ولم تقعد، وأنه يستحيل أن يمر، عاد عنه، ليبيت النية للرجل، ويفاجئ المصريين يوم 22 نوفمبر، بإصدار إعلانه الدستوري إياه، الذي وضع فيه مادة تتيح له عزل النائب العام!

السبب العام، إذن، الذي أغضب رجال القضاء عموما، وأسخطهم، أن رئيس الدولة الذي أقسم يوم 30 يونيو (حزيران) الماضي على احترام القانون والدستور، لم يحترم قانونا ولا دستورا، وانتهك الاثنين معا، وأخرج عبد المجيد محمود من مكتبه على نحو صارخ يخالف صراحة، قانون السلطة القضائية، وبدا منذ ذلك الحين أن وجود النائب العام الجديد، طلعت عبد الله، في منصبه تنقصه الشرعية في نظر زملائه على الأقل.

أما السبب الخاص، فقد كان أشد وأنكى؛ لأن مصر استيقظت ذات صباح على قرار من «عبد الله» بنقل المحامي العام لنيابات شرق القاهرة إلى بني سويف في الصعيد، لا لشيء إلا لأنه أفرج عن المتهمين في أحداث «الاتحادية» الشهيرة، وهي التي كانت حشود «الإخوان» قد هاجمت خلالها المعتصمين بجوار قصر الاتحادية، بما أدى إلى وقوع قتلى ومصابين، وبما أدى أيضا إلى أن يخرج د. مرسي في خطاب إلى المصريين، يتهم المقبوض عليهم في الأحداث بأنهم، وأنهم، ثم يتوعدهم، فإذا بالمحامي العام يفرج عنهم جميعا، بلا استثناء، لأنهم، كما قال، غير مذنبين، كما أن الأدلة ليست كافية لإدانتهم.

بدا من قرار نقله أنه قرار انتقامي من جانب النائب العام، الذي كان يريد، كما يقول شكل القرار، تلميحا لا تصريحا، حبس بعضهم على الأقل، منعا لإحراج الرئيس الذي سبق باتهامهم، وكاد يدينهم، فإذا بهم بعد خطابه بساعات، طلقاء!

وكانت الحكاية على بعضها مكشوفة، بل مفضوحة؛ لأنه كان من الواضح أن النائب العام حين أصدر قرار نقل المحامي العام للنيابات، المكلف بالتحقيق في أحداث الاتحادية، إنما يحاول، كنائب عام، أن يحفظ شيئا من ماء وجه الرئيس، ولم يجد طريقا إلى تحقيق هذا الهدف إلا بنقل المحامي العام، الذي كان كل ذنبه أنه حقق فيما كان بين يديه، بما يرضي ضميره، وليس بما يرضي الرئيس، ولا النائب العام.

ولم تتوقف الحكاية عند هذا الحد، وإنما كانت لها بقية أكثر إثارة، عندما رفض المحامي العام تنفيذ قرار النقل، وطلب العودة إلى عمله القضائي الأصلي، وتضامن معه رجال نيابة آخرون، فاستقالوا احتجاجا على الطريقة التي يعمل بها النائب العام، واعتراضا على أن يتحول من نائب «عام» عن الشعب، أو هكذا نفترض، إلى نائب «خاص» للرئيس، وللنظام الحاكم إجمالا.

إننا، والحال هكذا، أمام حالة من الارتباك في الحكم، تكاد تكون هي السمة الأهم لقرارات الرئيس مرسي، منذ أن جاء إلى القصر الرئاسي، فلا يكاد منذ أن تولى الأمر، يصدر قرارا، حتى يعود عنه، ولا يكاد يتخذ إجراء، حتى يتبين له ثم لنا، عدم قانونيته، ولا يكاد يقطع خطوة، حتى يثير بها الرأي العام من حوله، ويستفزه، بل أحيانا يهينه.

ولا أحد يمكن أن يخمن إلى أي مدى يمكن أن يدوم هذا الحال المضطرب، ولا إلى أي وقت يمكن أن يصمم الرئيس مرسي، كل يوم، على استفزاز المواطنين، وإثارتهم، وإصدار ما يعكر صفو حياتهم، من قرارات، هذا إذا كانت حياتهم قد صفت أصلا.

لا أحد يعرف.. ولكن ما يعرفه أي مراقب محايد لما يجري، أن واقعة استقالة النائب العام، إذا كانت تدل على شيء حقيقي، فهي تدل بوضوح على أن ما قام على باطل، يظل باطلا، ولو طال الزمن، ولا يلبث حتى ينهار، ثم إنها تدل أيضا على أن هذا النائب العام المستقيل، إذا كان قد ذهب ضحية لأحد، فهو ضحية لارتباك «مرسي» في الحكم، في الأول، وفي الآخر.

وعندما يفصل المجلس الأعلى، خلال هذه الساعات من النهار، في أمر الاستقالة، فسوف نكون قد عشنا حلقة جديدة، من حلقات الهزل، في موضع الجد، على مستوى دولة بكاملها!

ملحوظة: لا يغير من الكلام السابق في شيء، أن يقال يوم الخميس الماضي، إن النائب العام قد أبلغ المجلس الأعلى للقضاء بتراجعه عن استقالته.