«بعد خراب سوريا».. «خراب البصرة» من قبل

TT

اختار الرئيس بشار الأسد يوم الخميس 8 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 فضائية روسية ليقول من خلالها كلاما من شأنه أن يكون مادة للنقاش المستفيض، وبالتالي يتم التوصل إلى بعض التوافق عليها، لولا أن التوقيت كان متلازما مع ارتفاع مقلق في منسوب الدم الذي أريق والدمار الذي تكاثر.

وقبل ذلك ببضعة أسابيع اختار الرئيس بشار فضائية العائلة (الدنيا) ليقول من خلالها كلاما كنا نتمنى لو أنه تريث في جزمه لبعض الأمور التي أشار إليها من خلاله.

في الإطلالتين بدا أن الرئيس بشار غير مدرك ما الذي فعله خياره الأمني الذي اعتبره علاجا لمعضلة، وكيف أن الخط البياني دما ودمارا في ارتفاع يوما بعد آخر، مما يفرض تعديلا في الرؤية وفي العلاج. كما أن الرئيس بدا كمن يفكر وحده ويقول ما يعتبره الصواب في حين أن مناقشة الأمور مع عدد من المستشارين، المجاز لهم المناقشة وليس فقط إطراء ولي الأمر، كان من شأنها إضفاء مسحة من الواقعية على كلام الرئيس الذي هو ماضٍ، كما الرئيس المصري لاحقا وحاضرا محمد مرسي وكما بقية المنتفض عليهم من الرؤساء، زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي، في أشد الحاجة إليها.. وبالذات إذا قال هذا المستشار أو ذاك أو أولئك الرأي الذي يزجر أو يعظ أو يدعو إلى مكرمة أو ينهى عما هو ضلال. وها هي أمامنا تداعيات ما أصاب الرؤساء الذين انصرفوا، والرئيس المتأرجحة رئاسته محمد مرسي، مع ملاحظة أن هذا الأخير لكونه إخوانيا ومكتنزا ثقافة دينية إلى جانب التحصيل العلمي كان سينجو من الخدوش المستمرة لولايته الرئاسية التي لم يهنأ بها بعد وقد لا يهنأ أبدا لو أنه استحضر بعضا من آيات الكتاب الكريم ومن الحديث الشريف ومن الأقوال المأثورة للعرب قبل الدعوة لهم وللمسلمين كافة بعد أن ودّع الرسول أمته وترك للذين اصطفاهم القيام بالواجب.. فهو ما كان من المؤكد أنه سيتخذ من القرار أصوبه، وبالتالي فإنه كان سينجو من التهلكة في الحد الأقصى ومن التقريع إلى حد البهدلة وهو حي يرزق راقد على سرير المرض أو داخل جدران بيت الإقامة الجبرية فيما العائلات مشتتة ومطلوبة لدفع الثمن ثأرا بالأبناء من آبائهم. فالله سبحانه وتعالى يقدم التشاور في الأمر على البدء في التنفيذ (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل). والنبي (صلى الله عليه وسلم) يرى أن «الدين النصيحة» وأن «المستشار مؤتمن» وأن الهداية لإرشاد الأمور هي في التشاور، كما أن الاستشارة «عين الهداية» كما يراها الإمام علي (رضي الله عنه) الذي يضيف إلى ذلك القول «إن من أُعجب برأيه ضلَّ ومن استغنى بعقله زلَّ». وقبل الدعوة كان العرب متفقين على أن «أول الحزم المشورة» وأنها «حصن من الندامة وأمنٌ من الملامة».

وما هو أكثر غرابة في الأمر أن الذين يترأسون بعد انقلاب أو ثورة أو بفعل توريث يفرضه الأمر الواقع الخالي من دستور مستقيم المواد التي لا تخضع لتعديلات تفرضها أمزجة هذا المترئس أو ذاك، يحرصون أكثر الحرص على إظهار تدينهم وإسلاميتهم، فنراهم يختارون للخطب التي يلقونها في المناسبات شواهد من القرآن الكريم، كما يختمون الخطبة بآية أو آيات. لكن الذي يحدث هو أن هؤلاء، أو كتبة خطبهم الذين يحرصون على إضفاء المزيد من التعظيم لولي الأمر، يختارون آيات بعينها لتعزيز ما يريد هذا الرئيس أو ذاك من خلال الآية تدعيم رأيه فيه أو التوجه الذي يريده، مع أن في الكتاب الكريم من الآيات ما من شأن العمل بموجبه إنقاذ المترئس من فعل مبغوض.

وبالعودة إلى ما بدأناه حول كلام قاله الرئيس بشار الأسد ولم يحقق الغاية لأنه كان في رؤيته يتصرف كمنتقم وليس كرئيس للبلاد، نختار هنا نماذج من هذا الكلام الذي كانت تنقصه الفِطنة بسبب فقدان الاستشارة. ففي إطلالته عبر الفضائية الروسية قال «المسألة لا تتعلق ببقائي أو رحيلي فهذه تعود إلى الشعب»، و«أنا لم أكن المشكلة بأي حال من الأحوال، فالغرب يخلق الأعداء دائما. في الماضي كان العدو هو الشيوعية ومن ثم أصبح الإسلام ثم صدَّام حسين، والآن يريدون أن يخلقوا عدوا جديدا يتمثل في بشَّار..»، و«أنا أتمتع بالسلطات بموجب الدستور»، و«هناك العديد من السوريين مؤهلون لهذا المنصب»، و«واجبي أن أكون الرجل الذي يستطيع إنهاء الصراع واستعادة السلام»، و«المشكلة ليست بيني وبين الشعب فأنا ليست لدي مشكلة مع الشعب»، و«إذا كان الشعب السوري ضدي فكيف يمكن أن أبقى الرئيس؟» و«إذا كان جزء كبير من العالم ضدي والشعب ضدي وأنا هنا فهل أنا سوبرمان؟»، و«هناك انقسامات تحدث في سوريا، لكن الانقسامات لا تعني حربا أهلية»، و«علينا أن نقاتل لأننا لا نستطيع ترْك الإرهابيين يقتلون ويدمِّرون»، و«يعتقد أردوغان أنه السلطان العثماني الجديد ويستطيع السيطرة على المنطقة»، و«أغلبية الحكومات العربية تدعم سوريا ضمنا لكنهم لا يجرؤون على قول ذلك علانية لأنهم يتعرضون لضغوط من الغرب ومن البترودولارات».

وفي معرض إبداء الرأي في الدور غير المستحب للجيش السوري قال «لو أراد الجيش أن يرتكب جرائم في حق شعبه فإنه سينقسم ويتفتت، ولذلك لا يمكن أن يكون هناك جيش قوي وموحد وفي الوقت نفسه يقوم بقتل شعبه، كما لا يمكن للجيش أن يصمد لمدة عشرين شهرا في هذه الظروف الصعبة من دون أن يحظى باحتضان الشعب السوري». ويختم الرئيس بشار كلامه الذي ربما لا يجد الاقتناع الكافي لدى الجمهور الروسي الذي يتابع ما يجري على الأرض السورية من قتل وتدمير وانقسامات ونزوح وقصْف بالطيران - ولذا فإنه كلام لا يفيده في شيء - بالقول عما إذا كان يلوم نفسه «في بعض الأحيان خصوصا خلال الأزمات لا تستطيع رؤية الصحيح من الخطأ إلا بعد أن تتجاوز الأزمة..».

وهذا التفسير البشاري للملامة يجعلنا نستحضر القول الشائع «بعد خراب البصرة»، كما يجعلنا نقرأ باهتمام الرأي المستجد للرئيس بشار إنما هذه المرة على لسان نائبه المستكين فاروق الشرع، بعد ثلاثة أسابيع من إطلالته الروسية، وعبر الصحيفة اللبنانية السورية الهوى «الأخبار»، والتي أوحى فيها هذا الدرعاوي المستكين بأن ما كان مرفوضا بات مقبولا، وأن ما لا يقوله بشِّار الأسد حفاظا على مهابة الرئيس وخشية من عدم التجاوب مع مضمون القول يمكن أن يأخذه السيد النائب على عاتقه، ومن ذلك قوله «كل يوم يبتعد الحل عسكريا وسياسيا. نحن يجب أن نكون في موقع الدفاع عن وجود سوريا ولسنا في معركة وجود فرد أو نظام. لقد تعددت مشاكل سوريا وتعقدت إلى حد لم يعد فيه ممكنا فصل الأعمال العسكرية الجارية عن حياة المواطنين العاديين»، و«هناك مسائل كثيرة يمكن العمل عليها من أجل إيجاد حل، ولا أحد واهم بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه لأننا مقتنعون بأنه لا عودة لعقارب الساعة إلى الوراء»، و«من موقعي لا أعرف تماما إلى أين سيفضي الخيار بنا. ورئيس الجمهورية شخصيا قد لا يعطي الجواب الشافي مع أنه يملك في يديه كل مقاليد الأمور في البلد»، و«ما يجري في سوريا معقد ومركب ومتداخل»، و«كثيرون في الحزب والجبهة والقوات المسلحة يعتقدون منذ بداية الأزمة وحتى الآن أنه لا بديل عن الحل السياسي. والحل لا يكون واقعيا إلا إذا بدأ من أعلى المستويات. فرئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، وهو الذي يعيِّن رئيس مجلس الوزراء ويقود الحزب الحاكم ويختار رئيس مجلس الشعب»، و«لا الائتلاف الوطني ولا مجلس إسطنبول ولا هيئة التنسيق كمعارضة داخلية متعددة الأقطاب ولا أي مجموعات معارضة سلمية أو مسلحة بارتباطاتها الخارجية تستطيع أن تدعي أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب السوري. كذلك فإن الحكم القائم بجيشه العقائدي وأحزابه الجبهوية وفي مقدمتها حزب (البعث العربي الاشتراكي) بخبرته الطويلة وبيروقراطيته المتجذرة لا يستطيع وحده بعد سنتين من عمر الأزمة إحداث التغيير والتطور من دون شركاء جدد يسهمون في الحفاظ على نسيج الوطن ووحدة أراضيه وسيادته الإقليمية».

أما كيف الحل، فإن الشرع، أو الرئيس بشار بلسان الشرع، قال إنه يكون على النحو الآتي «إن أي تسوية سواء انطلقت من اتصالات أو اتفاقات بين عواصم عربية أو إقليمية ودولية لا يمكن لها العيش من دون أساسها السوري المتين. الحل يجب أن يكون سوريا ولكن من خلال تسوية تاريخية تشمل الدول الإقليمية الأساسية ودول مجلس الأمن. هذه التسوية لا بد أن تتضمن أولا وقف العنف ووقف إطلاق النار بشكل متزامن وتشكيل حكومة وحدة وطنية ذات صلاحيات واسعة. إن المشكلة تكبر وتتعمق عندما يعتقد البعض أن الحسم أو الكسر ممكن. ليس صحيحا على الإطلاق أن بإمكان كل هذه المعارضات أن تحسم المعركة على أساس إسقاط النظام إلا إذا كان هدفها إدخال البلاد في فوضى ودوامة عنف لا نهاية لها..».

عند القراءة المتأنية لكلام السيد النائب بعد بضعة أسابيع من كلام السيد الرئيس يستنتج المرء أن الرئيس بشار اقتنع إنما «بعد خراب البصرة» بأن الذي فعله كان مغامرة من النوع غير المألوف العواقب، وأنه في نهاية الأمر أجاز لنائبه المستكين أن يقول من الكلام ما يبدو فيه وكما لو أن النظام ارتأى أن يرفع الراية البيضاء سلاما وتسليما وليس استسلاما.. سلاما لما لم يهدر من دم ولم يدمر من بنيان.. وتسليما بحقيقة لا جدال في صوابيتها وهي ما قاله الشرع بنسبة من الصراحة وفي صيغة إشارات لا تخفى على اللبيب، وهي أن النظام البشاري بحزبه وجيشه بات لا يستطيع متفردا تحقيق التسوية. وعلى هذا الأساس فلتكن هناك خطوة من جانب الطيف المعترض خصوصا أن الشرع في ما قاله تفادى ما أمكنه التفادي اعتبار أن ما يجري يمثل مواجهة النظام للإرهاب. وأما إذا كان لن يأتي الرد على التحية بمثلها فعندها سنرى أن عناد المعارضة السورية كما عناد النظام، مجرد مناطحة ستجعل مقولة «بعد خراب البصرة» تُستبدل بها مقولة «بعد خراب سوريا». والله المنجي.