الحد من مخاطرة الولايات المتحدة يساعد الإرهابيين

TT

في قلب الانتقاد اللاذع الموجه لوزارة الخارجية بسبب أدائها خلال الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي، يكمن الحال الذي ربما يكون عليه «الوضع الطبيعي الجديد» في المناطق المتأججة بالصراع في الخارج التي لا يمكن للدبلوماسيين الاعتماد فيها على قوات الأمن المحلي ويكون عليهم التفكير في الموعد الذي ينبغي أن يغادروا فيه ويقوموا بإتمام مهمتهم عن بعد. ويتناول تقرير مجلس مراجعة المساءلة تعزيز الأمن الدبلوماسي الأميركي، والحفاظ على الوجود الأميركي حول العالم، لكنه بالنظر إلى ظهوره في وقت يتم فيه استبدال أربعة مسؤولين بارزين في وزارة الخارجية، يمكن القول إنه يتحدث عمليا عن دعم الحذر الواضح بالفعل في عمليات الولايات المتحدة في الخارج.

في عالم تعمه الفوضى، من المرجح أن يتراجع اتصال الدبلوماسيين الأميركيين بمن يحتاجون إلى التواصل معهم. وينبع هذا النهج القائم على تفادي المخاطر من ثقافة واشنطن، بما فيها الإعلام، والتي تتعامل مع كل خطأ باعتباره فضيحة. لقد كان الجمهوريون هم من وراء اللغط والضجة التي رافقت ما حدث في بنغازي؛ حيث كانوا ينظرون إليها كفرصة لتوجيه ضربة لإدارة أوباما قبل الانتخابات الرئاسية. وحملوا الرئيس أوباما ضمنا مسؤولية مقتل الأميركيين الأربعة في مكان تحيط به الأخطار. انتهى يوم الانتخابات، لكن ستظل توصيات التقرير للحد من المخاطر باقية. لقد تم ارتكاب أخطاء فادحة في بنغازي، وينبغي أن تتم محاسبة المسؤولين عنها.

لا يستطيع الصحافيون القيام بمهمتهم في الخارج دون مواجهة المخاطر، وينطبق هذا أيضا على الدبلوماسيين ومسؤولي الاستخبارات. وقد كان التقرير موفقا عندما حذر من النهج الحذر جدا بدرجة غير مقبولة الذي تسير عليه الدبلوماسية الأميركية، لكنني أخشى أن يعزز ما يحمله التقرير من اتهامات طريقة واشنطن المتجمدة التي لا تقبل الاختلاف مما يؤدي بالضبط إلى تلك النتيجة السابق ذكرها. وتضمنت الفقرات التي لفتت انتباهي توصيات تتعلق بالأمن، مثل ضرورة أن تتحرك وزارة الخارجية في نطاق يتجاوز الاعتماد التقليدي على دعم قوات أمن حكومة البلد الذي توجد فيه البعثة الدبلوماسية في المناطق التي تحيق بها الأخطار. وينبغي على وزارة الخارجية بوجه خاص مراجعة التوازن المناسب بين المخاطر المقبولة والعواقب المتوقعة في المناطق المعرضة لمخاطر شديدة. وربما يقترب التسامح مع التهديد «المقبول» من الصفر. ويشير التقرير إلى عدة طرق لتقييم احتمالات الخطر، لكن تتمثل أهمها في ضرورة انتباه المسؤولين إلى ما يطرأ على الموقف من تغيرات بما في ذلك الوقت الذي ينبغي فيه على البعثة أن تغادر المكان وتؤدي عملها عن بعد. سيتعرض المسؤول في المستقبل إلى خطر الموت، ناهيك عن احتمال خسارة زملائه لحياتهم، في حال ما لم يغادر عند حدوث خطر. ما حدث في بنغازي كان مرعبا. ونظرا لعدم وجود قوات شرطة أو جيش تتمتع بالكفاءة في ليبيا، كانت وزارة الخارجية تعتمد بالأساس على عناصر جماعة مسلحة يطلق عليها «كتائب شهداء 17 فبراير/ شباط» يصفهم التقرير بالعناصر «المسلحة التي تنقصها المهارة الكافية».

غير أن التقرير يشير إلى أنه في يوم الزيارة الدامية للسفير كريس ستيفنز، «كان أفراد ميليشيات 17 فبراير قد توقفوا عن مرافقة تحركات المركبات (التابعة للقنصلية) احتجاجا على الرواتب وساعات العمل». وكان مقاتلو الميليشيات عديمي الجدوى بكل ما في الكلمة من معنى، إذ لم يحاولوا إيقاف الهجوم على البعثة، ولم يردوا على مناشدات قائد قاعدة «وكالة الاستخبارات المركزية» بعد بضع دقائق من أجل تزويده بالمدافع الآلية الاحتياطية.

وهنا تكمن المشكلة التي لم يذكرها التقرير لكنها حيوية فيما يتعلق بالمستقبل؛ فالولايات المتحدة في مناطق كثيرة جدا من العالم، كما كانت في بنغازي، تعتمد على قوات تتكون من ميليشيات قبلية أو ما هو أفضل من ذلك قليلا. وفي بلدان كثيرة حيث تكون أجهزة الأمن الرسمية ضعيفة، فإن الولايات المتحدة تتعاون مع مؤسسات أمنية خاصة تضم مزيجا من المواطنين المحليين والمتعاقدين الأميركيين أو الأوروبيين من تلك النوعية التي كانت تعمل لدى شركة «بلاك ووتر». ويسلط ذلك التقرير الضوء على جانب أخير من جوانب الوضع الطبيعي الجديد؛ وهو أن التهديد الذي يمثله إرهابيو تنظيم القاعدة قد بدأ في «التجزؤ» والتحول، حيث لم يعد النموذج المتبع الآن هو شن هجمات كبيرة ضد الداخل الأميركي، كما حدث يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001، بل ما يطلق عليه التقرير «مجموعة متنامية ومنتشرة» من العناصر المحلية التي تضرب أهدافا أميركية أينما أتيحت لها الفرصة لذلك، مثلما حدث يوم 11 سبتمبر 2012 في بنغازي.

وبالعودة إلى هجمات 11 سبتمبر، أعتقد أن الكثير من الأميركيين يدركون الآن خطر اتخاذ رد فعل مبالغ فيه يكون له تأثير سلبي على القيم والمصالح الأميركية. والشيء نفسه ينطبق على هجوم بنغازي، فأضمن طريقة لتمكين العصابات الإرهابية الجديدة سوف تكون الانسحاب من البعثات الدبلوماسية الأميركية.

* خدمة «واشنطن بوست»