الشريعة ورابعة العدوية

TT

عندما كنت أطالع الأخبار وجدت خبرا عن تجمع عدد كبير من مؤيدي الشريعة أمام مسجد رابعة العدوية، وهو ما أثار تساؤلي عن العلاقة بين الشريعة ورابعة العدوية. كانت رابعة متصوفة شهيرة وامرأة أوتيت الحكمة. عندما نقرأ أقوالها وأشعارها يطالعنا شخص يستطيع النظر إلى أي ظاهرة من منظور مختلف. يقول ابن الرومي إن العارف بالله يستطيع أن يرى الظواهر الخفية. ويقول رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم): «اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله». وأورد هنا على سبيل المثال قولين من أقوال رابعة العدوية:

رُوي أن سفيان الثوري قال بحضرتها: «واحزناه». قالت: «لا تكذب وقل واقلة حزناه».

وقال ابن الجوزي: «كانت رابعة فطنة، ومن كلامها الدال على قوة فهمها قولها: (أستغفر الله من قلة صدقي في قولي.. أستغفر الله)».

لقد كانت رابعة قطبا من أقطاب الصوفية. إن الشريعة هي علم الظاهر. كيف لنا أن نفسر التناقض الكبير بين الشريعة والتصوف؟ من الواضح أن احتشاد السلفيين والإخوان المسلمين أمام مسجد رابعة العدوية في القاهرة كان أمرا غير مقصود، لكنني أريد أن استغله كفرصة للحديث عن الشريعة والصوفية.

إن جوهر الأديان الإبراهيمية هو الإيمان، لكن بعد عصور النبوة وظهور اليهودية والمسيحية والإسلام تحول جوهر كل ديانة من تلك الديانات الثلاث من الإيمان إلى الفقه. وبدأ الأحبار والقسيسون ورجال الدين يضطلعون بدور حيوي في مجتمعاتنا. وباتوا يرددون على مسامعنا أن تفسيرهم للكتاب المقدس هو الحقيقة المطلقة ولا يمكن لأحد أن يعارضهم. على سبيل المثال في الديانة المسيحية تذكرنا ملابس البابا ونمط حياته والقلاع بالإمبراطور الروماني، وليس المسيح عليه السلام. إن المسيح كان رمزا للإيمان وطيبة القلب، لكن الكنيسة كمؤسسة غيرت هذه الصورة وهذا النمط، خاصة عندما قبضت على مقاليد السلطة. ويوضح هذا كيف أصبحت السلطة بعد زمن المسيح هي جوهر الدين، وباتت مهمة الفقه الأساسية هي تبرير أفعال السلطة.

لدينا دولة دينية فريدة هذه الأيام تقوم على أساس الفقه الشيعي في إيران، إنها تسمى ولاية الفقيه التي تستند إلى فرضية أنه نموذج الحكم الشيعي. ويبدو أننا إزاء نموذج مختلف في مصر يمكن أن نطلق عليه النموذج السني. وصف طارق الحميد الطريقين في أحد مقالاته، حيث ذكر أننا نواجه المرشدين في قم وفي الأزهر. العامل المشترك بين هذين الاتجاهين هو مفهوم الإسلام السياسي. السؤال الأساسي المطروح حاليا هو: كيف يمكن للإسلام السياسي حل الأزمة التي تشهدها إيران وتلك التي تشهدها مصر؟ بمعنى آخر، هل الإسلام السياسي هو الحل؟ نحن نتذكر كيف رفع «الإخوان المسلمون» شعار «الإسلام هو الحل» على مدى العقود الثمانية الماضية. ومع ذلك لم يركزوا خلال الربيع العربي في مصر على هذا الشعار التاريخي فحسب، بل أيضا وعدوا بعدم ترشيح جماعة الإخوان المسلمين لأي فرد من أفرادها للرئاسة.

لقد كانت لدينا تجربة مماثلة خلال الثورة الإسلامية في إيران. عندما كان آية الله العظمى الخميني في باريس وعد بأنه سيعود إلى قم بعد الإطاحة بالشاه، مؤكدا أنه ليس سوى رجل دين عادي، لكن رويدا رويدا بدأت المساحة المخصصة للآخر تنكمش في إيران. حتى آية الله العظمى منتظري ظل رهن الإقامة الجبرية لأكثر من خمسة أعوام بعد انتقاده للقيادة الإيرانية. وأكدت حفيدة آية الله الخميني، نعيمة إشراقي، مؤخرا غياب الحرية والعدالة في إيران خلال مقابلة أجرتها مع صحيفة «ديلي تلغراف». وأوضحت أنه يوجد مناخ أمني في إيران لا يوجد في أي مكان آخر. وقالت: «لست قلقة فقط من أن تدق قوات الأمن باب داري يومًا ما، بل أيضا أنه من الممكن جدًا أن يحدث ذلك، وحينها لن أكون مختلفة كثيرًا عن العديد من المفكرين الأحرار البارزين الآخرين في بلدنا ممن انتهى بهم الحال في السجن».

إن هذا لهو دليل آخر حديث يوضح طريقة الحكم التي يتبعها نظام الحكم الديني الذي يزعم أنه قادر على إقامة الجنة على الأرض. استنادا إلى التجربة التاريخية، ليس فقط في التاريخ الإسلامي، بل أيضا في تاريخ المسيحية واليهودية، فإنه عندما يختلط الدين بالسياسة تختفي الحرية والعدالة والسعادة في النهاية. ويوضح لنا تاريخ الفكر والأفكار أن لمصر تجربة ثرية في ما يتعلق بالعلاقة بين الشريعة والسياسية. من ذا الذي يستطيع أن ينسى تعاليم الإمام الشهير محمد عبده لتلاميذه؟ ويروي رشيد رضا في كتابه «حياة سيدنا» القصة حيث يذكر أن محمد عبده قال: «لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس، وكل ما اشتق من السياسة، فإنها ما دخلت شيئا إلا أفسدته». ومن الواضح أنني في الوقت الذي لا أتفق فيه مع هذه النصيحة المبالغ فيها، أعتقد أن جزءا منها صحيح وواقعي. إن أسوأ وهم هو الاعتقاد الغريب بأن الحاكم لا بد أن يكون مرهوبا. ويقول الشيخ محمد عبد المقصود: «من أهان مرسي أهانه الله».

يُقال في إيران إن كلمات المرشد الأعلى هي كلمات الله، وإنها في منزلة الوحي من الله. إن كلماته وأوامره فوق القانون بما في ذلك الدستور. هذه هي التجربة الإيرانية. لذا أعتقد أنه شتان ما بين رابعة العدوية ومرسي؛ وبين الشريعة والصوفية. ربما يكون الأمر كما قال الشيخ يوسف القرضاوي: «أنا شخصيا أدعو إلى (تسليف الصوفية) و(تصويف السلفية)، فالمتصوف يأخذ من انضباط السلفية في عدم الأخذ بالأحاديث الموضوعة وعدم الأخذ بالشركيات والقبوريات، ونريد من السلفي أن يأخذ من الصوفية الرقة والروحانية وخشوع القلب ونعمل من هذا المزيج المسلم المطلوب».

أعتقد أن الأمر الأهم هو الاستقامة والأمانة في التعامل مع الناس وعدم التلاعب بمعتقداتهم. إنه تحد كبير بالنسبة للسياسيين المنتمين إلى التيار الديني. عندما كنت صغيرا درسنا أن «كل شيء جاوز حده انعكس إلى ضده».