النبوءة التي صدقت

TT

من الصعب أن يتنبأ السياسيون مهما كانت بصيرتهم صافية بما سوف يحدث في المستقبل، الاستثناء هو الرئيس المصري السابق حسني مبارك، رغم الأخطاء الكبيرة التي قام بها والتي تدل في زاوية ما على قصر النظر وعمى البصيرة، فإنه كان يقول: إن من بعدي سوف يأتي «الإخوان»! وصدق في ذلك الحدس.

كنت منذ أيام استمع - كعادتي - إلى محطة الإذاعة البريطانية الـ«بي بي سي» العربية، وكان المتحدث هو أحد أهم رجال الإعلام والثقافة في مصر، الصديق فاروق شوشة، المحب للعربية والمحب أيضا للحرية، وكان الموضوع المطروح للنقاش هو دور وتاريخ الـ«بي بي سي» في إغناء الإعلام العربي وطريقتها المهنية.

فاروق شوشة خدم طويلا في الإعلام المصري الإذاعي، وأبلى فيه بلاء حسنا، قال وهو يعدد فوائد تمأسس الـ«ـبي بي سي» – إن صح التعبير - إنها رغم تبعيتها للحكومة البريطانية التي توفر ميزانيتها، فإنها في أوقات كثيرة تقوم بنقد سياسات تلك الحكومة، ثم أردف الرجل الذي يقترب عمره المديد من ثلاثة أرباع القرن: كنا نتوق أن يكون لدينا في مصر مثل تلك العلاقة المؤسسية، التي تجعل من وسيلة الإعلام مستقلة لا رقابة عليها غير ضمير من يؤتمن على تسييرها. تقديري أن تلك الأمنية الغالية من فاروق شوشة تمثل أمنية للكثير من المستنيرين العرب، بمن فيهم شريحة واسعة من المصريين الذين خبروا معي تدني الحريات. وأحسب أن جزءا غير يسير من رجال ونساء ثورة 25 يناير (كانون الثاني) المصرية، يتوق إلى تلك الفكرة بشمولها، أي إلى الحرية، كما أن المتفق عليه أن شعار ثورة 25 يناير الثلاثي هو «عيش، حرية، عدالة اجتماعية».. في تقديري أن «الحرية» تسبق الاثنين، العيش والعدالة الاجتماعية، لأنها أصل الاثنين معا.

إلا أن «الحرية» سوف تغطى بالكثير من التفسيرات بعد أن عرف العالم نتيجة الاستفتاء على الدستور المصري، الذي صوت علية فقط 35 في المائة ممن يحق لهم الاقتراع من المواطنين المصريين. لا أكتب هذه السطور بناء على سماع ما قيل عن الدستور، إلا أن بين يدي نسخة أرسلها صديق متعاطف مع نصوصه لاطلاعي، وما اطلعت عليه يجعل من شكوكي حقائق لا تقبل الكثير من الجدل. إن الدستور المصري الذي استفتي عليه سوف يخلق من الشقاق أكثر بكثير من رتقه للشقوق السياسية والاجتماعية في مصر!

قلت في مقال سابق إن تركيا تقوم بكتابة دستور جديد، وفي البرلمان التركي أربعة أحزاب متفاوتة في عدد المقاعد، إلا أن الحزب الأكبر (العدالة والتنمية) قرر أن تكون اللجنة ممثلة بالتساوي لكل من الأحزاب الأربعة، وكثير من دول العالم التي كتبت دساتير لها حديثة كان هاجسها هو التوافق المجتمعي، أما أن يقرر 40 في المائة من الشعب الذي ذهب بالفعل للتصويت إلى رفض الدستور، بعد كل الجهد الذي استخدم من الإغراء بالدنيا إلى الوعد بالآخرة، في مجتمع نسبة الأمية فيه مرتفعة، والأمية الثقافية أكثر ارتفاعا، فإن نسبة الرافضين تعني الشيء الكثير، تعني أن احتمال استدعاء «البوربون» في مصر أصبح ممكنا، والاستخدام للمفهوم هنا بكثير من الرمز، أي أن البعض سوف يرى أن «نار السابقين ولا جنة اللاحقين».

في ضمن نصوص الدستور «ضمان نزاهة الانتخابات»، وما ظهر على السطح في الاستفتاء من تجاوزات تحدث عنها الإعلام المصري، يعني بداية انتهاك لما كتب في صلب الدستور، كما القول في النص الدستوري، أن «لا يعلو صوت على قوة الحق، والقضاء مستقل شامخ صاحب رسالة سامية»، وفي الوقت نفسه لا تقوم الدولة بفك حصار مقر المحكمة الدستورية العليا، ويتساءل كثيرون: ترى من يحاصر مقر المحكمة وإلى أي فصيل هم ينتمون؟!

يجمع الدستور الجديد بين مفهومين «الديمقراطية» و«الشورى»، وإن كان المفهوم الأول عليه توافق عام، ولكن لا تفسير واضحا للمفهوم الثاني، فإن كان المفهومان واحدا فلماذا التكرار إذن؟! عدد كبير من المواد الدستورية يحيل إلى القانون، أي متروك تحديده لقوانين تصدر لاحقا من مجلس تشريعي منتخب، وقد توسع الدستور في ذلك، مما يفتح الباب واسعا إلى اجتهادات مستقبلية تؤدي إلى تقييد الحريات، خاصة في ضوء الصياغة العامة للمواد الموضوعة، كمثل ترك تحديد الملكية الخاصة والعامة ونزعها خاضع لقانون لاحق، وإنشاء دور العبادة، والمصادرات للاستخدام العام، وتحديد الأخلاق، وضبط النظام العام، وإنشاء محطات البث الإذاعي والتلفزيوني، ووسائط الإعلام الرقمية أو إنشاء الجمعيات والمؤسسات، كل تلك متروك تحديدها للقانون. هناك ما يمكن تسميته بـ«الحفرة السوداء» في الدستور المستفتى عليه، وهي الإحالة إلى القانون في الكثير من المواد، التي قد يرى آخرون أنها من ضمن الحريات العامة، واجب النص عليها صراحة دون إحالة.

في الدستور عدد من المواد التي يمكن اعتبارها حديثة ومشجعة، مثل عدم جواز إلقاء القبض على شخص إلا بتهمة محددة، ورعاية مصالح المصريين في الخارج، وإصدار الصحف بمجرد الإخطار، وحرية التعبير، إلا أن مواد أخرى قد تقيد تلك التوجهات من خلال قوانين لاحقة تصدر.

نتيجة الاستفتاء يجب أن لا ينظر إليها على أنها تفويض نهائي، فهناك من يهجر السفينة في قمة القيادة المصرية من السياسيين، وأيضا الاقتصاديين وكبار الإداريين، وهناك من يمتنع عن المشاركة في المؤسسات الجديدة، بل هناك تيار كبير لأول مرة يظهر استعدادا للنزول إلى الشارع وأخذ المعارضة إلى أكثر من اللفظ والشعار.

من جديد، التنبؤ بما سوف تكون عليه مصر في الأشهر القليلة القادمة من المخاطرة بمكان، ولكن بالتأكيد إن مياه مصر السياسية سوف تكون مضطربة، وأيضا مؤثرة على الجوار، وقد تنتهي نبوءة مبارك ليس فقط في موضوع «الإخوان» وإنما أيضا في خراب الدولة.

آخر الكلام:

انتحرت ممرضة في بريطانيا قبل أسابيع لأنها قدمت معلومات عن مرض زوجة ابن ولي العهد البريطاني، وكانت ضحية خدعة إعلامية من محطة إذاعة في أستراليا... بعض الأوقات يكون الإعلام قاتلا.