ديمقراطية «الأغلبية الجاهزة»

TT

ماذا أعني بـ«الأغلبية الجاهزة»؟ إنها الرابح لورقة اليانصيب الفائزة، بكل «غزوة» لصندوق الاقتراع الشعبي. أليس من حقك، يا سيدي، أن تساورك الشكوك في صدق هذا الاقتراع، عندما تجد أن هناك دائما رابحا واحدا. وحيدا. سعيدا، يتكرر فوزه بالجائزة الأولى؟

منذ غياب نظام حسني مبارك، شهدت مصر ستة اقتراعات شعبية حرة نسبيا. وكان هناك رابح معيَّن وحيد، سواء كانت استفتاءات أو انتخابات رئاسية ونيابية. هذا الرابح السعيد هو الحزب الغيبي. الحزب الواثق بالفوز في اليانصيب، مهما كانت الظروف سيئة وسلبية بالنسبة له.

استصدر الرئيس محمد مرسي إعلانا سلطانيا. منح نفسه فيه سلطات استثنائية. حصَّن نفسه من المساءلة والمحاسبة أمام القضاء. حال دون إلغاء «مجلس الشورى» المشكوك بصحة انتخابه. أجرى استفتاء شعبيا حول مشروع الدستور، بعدما سَلَقَهُ بسرعة هائلة في أتون «لجنة دستورية» انسحب منها ممثلو قطاعات واسعة من الشعب.

جرى الاستفتاء في ظل حصار ميليشيوي لأعلى محكمة قانونية في الدولة. وفي ظل انقسام شعبي لم تعرفه مصر في تاريخها المعاصر. انقسام كان على الرئيس أن يجنِّب مصر خطره، بتأجيل الاستفتاء أو إلغائه. ولكي لا يقدم نفسه رئيسا للحزب الغيبي، إنما رئيسا. أبا. أخا، لتسعين مليون إنسان. ولولا وعي ونضج هذا الشعب الطيب. الأمين. المسالم، لتحول الاقتراع إلى صدام دموي، أشد هولا مما جرى ويجري في سوريا.

كيف يجري تأمين هذه الأغلبية الحزبية «الجاهزة واستنفارها باستمرار» لغزو.. صناديق الاقتراع؟ هذا الحزب (الجماعة) لا يتمتع منذ تأسيسه «1928» بهيكلية حزبية منتخبة، وفق نظام داخلي مفتوح من القاعدة إلى القمة.

وليس هناك حوار حر بين قاعدته الحزبية الشعبية والشبابية، والنخبة الإرشادية المتربعة على القمة، والوارثة باستمرار لأفكار «جاهزة» ومواقف لا تتغير، بتغير الظروف والأشخاص.

وإلى الآن، ليس معروفا على المستويين السياسي والقانوني، ما إذا كان هذا الحزب هيئة سياسية. أم جمعية خيرية. أم شركة رأسمالية. أم تنظيما سريا عنفيا. أو سلميا؟ كل ما هو معروف أن هذه «الأغلبية الجاهزة» هي كتلة صخرية صمَّاء. صامتة حقا. أغلبية لم تشارك في حوار تنظيمي داخلي. أو حوار حزبي مع القوى السياسية والحزبية الأخرى.

من هنا، فهي أغلبية يسهل سوقها إلى «غزو» صناديق الاقتراع، للتصويت لحزبها. حزب الأغلبية الصامتة. إنها أغلبية مقتنعة بكل ما يقال لها عن صوابية موقفها. بل مؤمنة سلفا بـ«طهارة» النخبة التي تضبطها وتتحكم بها، منذ عشرات السنين.

وهكذا، يصعب إن لم يكن مستحيلا، أن تعاني هذه الأحزاب الغيبية «القداسية» من انشقاقات أو انقسامات، كما لدى الأحزاب الحرة. حافظ «حزب الله» على وحدته التنظيمية منذ تأسيسه قبل ثلاثين عاما. وكذلك فعلت مراكز القوى الغيبية والميليشيوية التي تحكم إيران. ولم تتأثر قط بوفاة الخميني فقيهها «القداسي» «1988».

وفي مصر وتونس، لم يتعرض الحزب الديني إلى انقسام يُذكر. يتمُّ نفي الانقسام فورا. إذا صعب النفي يجري عزل الخلايا «المتمردة». فجرى تحييد حزب «الوسط». ثم أقصي عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد.

وفي الأزمة الراهنة، تمَّ إجباره على الصمت، لكي لا ينتهز الفرصة للانضمام عمليا إلى المعارضة، ولكسب مزيد من «المتمردين» في مكتب الإرشاد، أو في القواعد الإخوانية الشبابية.

غيبية الحزب الديني المسيّس تبدو أكثر تصلبا وتزمتا مع الزمن، بحيث يصعب التفاؤل بإمكانية تطوره وانفتاحه، كما جرى لحزب «العدالة والتنمية» التركي. الدليل أن القوى الدينية المتزمتة التي خرجت من رحم الحزب اتجهت يمينا، بما فيها تلك التي اغتالت الرئيس السادات «1981».

ثم حاربت وزندقت «الكفار» على جبهات تمتد من باكستان وأفغانستان، إلى اليمن. والعراق. والجزائر. ثم إلى ليبيا. والمغرب العربي. وسوريا. و... مالي. الديمقراطية نظام الفرص المتساوية والمتكافئة الممنوحة لكل القوى السياسية والحزبية. لذلك، يصعب حرمان أي منها، بما في ذلك «الأغلبية الجاهزة»، من هذه الحقوق. لكن هل يمكن التخفيف من أذى استخدام هذه الأغلبية، في التصويت ضد أي انفتاح اجتماعي أو سياسي؟

قد يكون النص في الدساتير، على منح المواطن حق الاقتراع بصوت واحد، فقط. حدا من قدرة أحزاب «الأغلبية الجاهزة» على التصويت لحلفائها. كان تصويت الناخب السوري، لأكثر من مرشح نيابي واحد في العهود الديمقراطية، كارثة حقيقية.

كان بإمكان الناخب في دمشق التصويت للشيوعي خالد بكداش. ولليميني صبري العسلي. وللإخواني عصام العطار، معا! وكان الشيخ معروف الدواليبي ينال في حلب أصواتا تفوق عدد أصوات زعيم حزبه رشدي الكيخيا، نتيجة لتمكن «الإخوان المسلمين» من استخدام الصوت «الإضافي» للتصويت له.

ولهذا السبب، يصر اليوم حزب «الأغلبية الجاهزة» في الأردن، على رفض قانون الانتخاب بصوت واحد. فهو يحرمه من «غزو» صندوق الاقتراع، بأكثر من صوت. أود أن أنوِّه، هنا، بأن التوسع في استخدام اللائحة إلى جانب الدائرة المغلقة، من شأنه التوسع في استخدام أكثر من صوت لكل ناخب.

الصوت الواحد يتيح ضبط وتقدير قوة شعبية كل حزب أو مرشح. ويرسم صورة حقيقية للخريطة الانتخابية، فيما ترسم «تعددية» الأصوات صورة غائمة للوضع السياسي والاجتماعي برمَّته. وتحول دون تشكيل حكومات مستقرة. مستندة، إلى أغلبيات. حقيقية. ومحددة.

أيضا، الاتجاه السائد نحو تمثيل السلطة التشريعية بغرفتين نيابيتين «مجلس نواب. ومجلس شيوخ. أو شورى. أو أعيان...» يمنح حزب «الأغلبية الجاهزة» قوة سياسية إضافية في الغرفتين. ويُبْطِئ من سرعة سن القوانين.

بل أذهب إلى تحبيذ إلغاء الغرفة النيابية الثانية، أيا كانت تسميتها. وغرضي حرمان النظام من حشد مزيد من الأعوان في مؤسسة انتخابية، مهمتها ممارسة الوجاهة والثرثرة أكثر من ممارسة التشريع. وأقترح الاكتفاء بالتعويض عن الغرفة الملغاة، بالقراءة الثانية والثالثة للقوانين في الغرفة الأولى «مجلس النواب».

وقد دلت تجربة الدول الديمقراطية العريقة، على أن مجلس اللوردات البريطاني أكثر محافظة من مجلس العموم «النواب»، نتيجة لحشده بالكسالى من نبلاء. ووزراء متقاعدين، فيما يبدو مجلس الشيوخ الأميركي بمثابة قيد تشريعي على مجلس النواب، أو على الرئيس الأميركي، بحيث يعاني النظام الديمقراطي الاتحادي من بطء صياغة القوانين، والارتباك في التعامل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.

كل هذه الإجراءات التي ذكرت قد تفيد في الحد، من طغيان «الأغلبية الجاهزة» على المعارضات الشعبية الممثلة بالأحزاب والتيارات الليبرالية واليسارية. غير أنها لا تحل مأزق الديمقراطية، تماما كما يبدو والمشهد السياسي المصري، سابقا ولاحقا. فقد تَكَفَّلَ دائما الحزبان الحاكمان المباركي. ثم الإخواني، بتوفير «أغلبية جاهزة» لتمرير معاهدات وسياسات. وقوانين. ودساتير، عبر صناديق الاقتراع، وشكلت خطرا على الديمقراطية. والاستقرار. والأمن. ومصالح مصر العربية. لعل حمدين صباحي يستخلص العبرة من الخطأ المروِّع، في سماحه لكتلته الناصرية المليونية، بالتصويت لمرشح الإخوان الرئاسي، في الدورة الثانية!