تجنيد «عقبة بن نافع»!

TT

أحدثت التصريحات الأخيرة لوزير الداخلية التونسي علي العريض نوعا من الاستنفار الاجتماعي، إن صح الوصف، باعتبار أن الحس المشترك للمجتمع التونسي يستبعد وجود موطئ قدم لما يسمى تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». ولعل الجديد في تصريحات الوزير هو اكتشاف وجود تنظيم جنيني يطلق على نفسه اسم «كتيبة عقبة بن نافع» له علاقة مع أمين تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» عبد المصعب عبد الودود، ويسعى إلى تجنيد الشباب التونسي وهيكلته عقائديا وعسكريا.

وفي الحقيقة، لا يشكل مثل هذا التصريح وغيره للخبراء في شأن الإرهاب معلومات جديدة بقدر ما يتمثل الجديد ربما في عملية الإفصاح السياسي عن هذه المعلومات. من ذلك، أن النظام السابق لا شك في أنه كان على دراية كاملة بأن «أحداث سليمان» في عام 2006 ذات صلة بعناصر تنظيم القاعدة. لذلك، فإن الجديد، حسب اعتقادنا، يكمن في نقاط أخرى، إضافة إلى أن التحدي الكبير اليوم أمام النخبة السياسية الحاكمة في مرحلة ما بعد الثورة التونسية يتمثل في كيفية المعالجة والقطع الحقيقي مع الماضي باعتبار أن ملف الإرهاب وليمة فاخرة للممارسات غير الديمقراطية ولكبح جماح القوى الداعية إلى الحرية.

إن علاقة بعض الشباب التونسي بتنظيم القاعدة ليست علاقة جديدة ووليدة اليوم أو وليدة مرحلة ما بعد الثورة، بل إنها علاقة قديمة نسبيا تعود إلى ما قبل أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001؛ إذ إن عملية اغتيال أحمد شاه مسعود نفذها شاب تونسي تخرج في معهد الصحافة وعلوم الأخبار وقد كان في الأصل يساري التوجه ثم أصبح يتبنى «السلفية الجهادية». كما أن أميركا قبضت بعد أحداث 11 سبتمبر على عناصر تونسية كثيرة بعضها في سجن غوانتانامو إضافة إلى مشاركة شباب تونسي في أحداث مدريد.. وغير ذلك.

وبلفت النظر عن الانتماء إلى «القاعدة» بصفتها تنظيما، فإن الأكثر أهمية في كل هذا هو تبني بعض الشباب التونسي الفكر القاعدي والآيديولوجيا القاعدية القائمة على السلفية الجهادية؛ أي إحياء الجهاد وفرض الشريعة الإسلامية من زاوية أصولية سلفية صرفة. وإذ نركز على هذا التفصيل، فذلك كي نوضح أنه ليس كل الشباب التونسي المنخرط في الفكر السلفي الجهادي هو على صلة تنظيمية بتنظيم القاعدة.. فنحن أمام ظاهرة معقدة تحكمها علاقة تفاعلية تواصلية بين مجموعات يجمع بينها مبدأ الجهاد باسم الدين، وهو ما يفسر استدعاء رموز دينية إسلامية في تسميات هذه المجموعات مثل اسم عقبة بن نافع مؤسس مدينة القيروان الإسلامية.

ولعل مسألة تبني الفكر السلفي الجهادي هي الجديرة بالاهتمام والتركيز والاستنفار من الزوايا كافة. وفي هذا الإطار، نضع الخبر الذي تداولته معظم وسائل الإعلام والذي مفاده أن 40 في المائة من مقاتلي الجيش الحر من حاملي الجنسية التونسية، أي إننا أمام طاقة جهادية خام قابلة للتصريف السياسي، أو للتصريف في إطار استراتيجيات تنظيمية جهادية صرفة.

والجدير بالتوقف عنده أيضا هو تطور نسق نشاط السلفية الجهادية في تونس، وأن هذا الفكر بصدد التوسع والتمركز.

إن معطى صعود الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في تونس، وبقاء الحدود التونسية مفتوحة على السلاح المنتشر في ليبيا والعناصر السلفية الجهادية الجزائرية، واستغلال حداثة عهد النخبة السياسية في تونس بالحكم والسياسة والملفات الخطيرة، إضافة إلى تغلغل السلفية الجهادية في ليبيا والأحداث التي غيرت الواقع الليبي.. كل هذا وغيره شكل عوامل تغذية جديدة وظفتها هذه العناصر للاستفادة من تونس بصفته بلدا أصبح في منظور تنظيم القاعدة أرضية خصبة لمزاولة الجهادية والظفر بمعسكر قاعدي إضافي في وقت يعرف فيه تنظيم القاعدة حصارا وعزت فيه المعسكرات خصوصا أنهم على وشك خسارة معسكر استراتيجي في مالي.

إذن تكثيف تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» نشاطه في تونس وبعث كتيبة تحمل اسم «عقبة بن نافع» يعد مؤشرا مهما من خلاله يمكننا قياس خطورة الوضع وإلى أي حد توجد إمكانية استباحة تونس قاعديا؟

لو كانت هذه التطورات الخطيرة حصلت في فترة النظام السابق لكانت المعالجة حملات تفتيش واسعة والقبض بالجملة على المشتبه فيهم وغير المشتبه فيهم وزرع عيون وآذان لا تنام في كل حي ومقهى وجامعة.. ولكن الوضع في تونس ما بعد الثورة عازم على تجاوز هذه الممارسات: مساحة من الحرية.. خطوات في مسار الانتقال الديمقراطي.. يقظة المجتمع السياسي والآخر المدني. هناك حساسية من ثقافة العقوبة الجماعية، وفي الوقت نفسه الوضع الاقتصادي والاجتماعي لا يحتمل المجازفة. ومن ثم، فإن ملامح تونس اليوم تجعل من معالجة هذه التطورات تحديا قويا وامتحانا من أكثر امتحانات الانتقال الديمقراطي صعوبة.

هناك اليوم معادلة صعبة: كيف تسير تونس نحو الأمام وتعالج في الوقت نفسه الاختراق النوعي من تنظيم القاعدة للمجال التونسي دون أن يكون ذلك على حساب استحقاقات الثورة والحريات.