«مايا» خيبت آمال «شيرينجا»

TT

بعد أسابيع طويلة من الانتظار تنفس العالم الصعداء ومر يوم 21 من ديسمبر (كانون الأول) من دون أن تحدث المفاجأة ويزول الكون كما تنبأت حضارة مايا التي برزت وانتشرت في مناطق أميركا الوسطى. الصفعة الأقوى التي تلقتها «مايا» والمتحالفون معها هي انقضاء النهار في قريتين تركية وفرنسية اعتبرتهما خارج دائرة الخطر دون أي ضجيج وتسابق على حجز مقعد للنجاة في المكانين.

«مايا» قالت: إن تاريخ 21 من ديسمبر الحالي هو موعد نهاية الكون وإن خشبة الخلاص هي قرية «شيرينجا» الواقعة في جنوب غربي تركيا والتابعة لقضاء افيسيوس، هذه المدينة الإغريقية والجبال التي لجأ إليها المسيح والمنطقة التي صعدت العذراء منها إلى السماء كما تقول الرواية. أما القرية الثانية فهي «بوغاراش» الواقعة في الوسط الفرنسي والتي ستنجح - كما قيل لنا - في امتصاص الطاقة الحرارية والتحولات الطبيعية التي سيشهدها العالم خلال هذا الحراك.

تجاوزنا هذا التاريخ بصمت لافت خيب توقعات الكثيرين في أن يكون يوما غير عادي كما حاولت عشرات وسائل الإعلام التركية أن تقول، فذهب كل استنفارها وأخبارها المضخمة والملفقة هباء.

قرية في قلب الأناضول لا يزيد عدد منازلها عن الـ250 مسكنا وعدد سكانها عن الـ650 فردا حولوها إلى أرض مفتوحة وخيم تنصب وفنادق تستنفر لتستقبل 60 ألف وافد كما قيل، لم يحضر أحد منهم سوى 150 رجل أمن وشرطة مرور و250 إعلاميا وصحافيا بدأوا يصورون بعضهم البعض عندما لم يجدوا أحدا آخر يحاورونه ومل أهل القرية من الريبورتاجات واللقاءات المكررة. تجار البلدة حاولوا أن يواكبوا الحدث فأعلنوا هم أيضا حالة الاستنفار من خلال طبع صور القرية فوق قمصان وكنزات جهزت للمناسبة، بعضهم وعد نفسه بساعات طويلة من التبضع والإقامة فلم يحقق أمنيته. صانعو النبيذ في البلدة لم يهملوا التذكير بقيمة بضاعتهم وجودتها دون فائدة، مدرج عاجل للمروحيات، سيارات إسعاف تنقل إلى المكان لاستخدامها عند الضرورة، هواتف تركب خصيصا في الطرقات ومستشفى ميداني يوضع في الخدمة ولكن لا أحد يحضر ليستفيد من كل هذه الخدمات. أحد المجانين رمى حجرا في البئر وأربعين عاقلا جاءوا يتباحثون في طريقة إخراجه فلم ينجحوا في ذلك.

كان الرهان على قدوم نجوم عالميين مثل توم كروز وأنجلينا جولي لكن أحدا لم يحضر سوى زوجة الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال التي غادرت المكان دون أن تنتظر قدوم اليوم المعلن لتعرف حتى ما الذي سيقع. روايات وتوقعات كثيرة سمعنا بها حول تاريخ نهاية الكون مصدرها أكثر من مدينة وحضارة لكن «مايا» تعرضت لخيبة أمل بسبب فشل توقعاتها هي والمحسوبون عليها. إمام جامع القرية يقف وسط المصلين ظهر الجمعة ويذكرهم أن لا قيمة لخرافات من هذا النوع. فالقرآن الكريم - كما قال - عرّف يوم القيامة وقدوم الساعة وموعدها الذي لا يعلمه سوى الخالق عز وجل.

البعض عمم لائحة إرشادات للراغبين في الذهاب إلى البلدة ناصحا بالحذر من أن يتعرضوا لحادث سير ويقضون في الطريق قبل الوصول إلى المكان. البعض الآخر سخر منهم متسائلا: لماذا اشتروا بطاقات العودة وهم يعرفون أنها نهاية الكون. أحد سكانها قال واصفا المشهد: كنا ننتظر السياح والمتسوقين أكثر مما كنا ننتظر وقوع الكارثة. أكثر الداعمين لرواية مايا كان منا، وقال بعض الساخرين: هو الذي تراكمت أمامه الفواتير والمستحقات في ذلك التاريخ. وزير السياحة التركي أرتوغرول غوناي قال: إنه وباسم السياحة لم يعْترض على هذه الأسطورة التي لم يكن مقتنعا بها منذ البداية.

مختار بلدة شيرينجا كاد يتحول إلى زعيم للعالم الجديد لكن الحظ لم يحالفه وعليه انتظار الموعد الجديد المعلن وهو 3500 ميلادي إذا ما استطاع البقاء على قيد الحياة حتى هذا التاريخ، خصوصا أن المتحمسين لحضارة مايا ونهاية الكون بدأوا يقولون: إن سبب عدم حدوث الواقعة هو دعواتهم التي استجيب لها في آخر لحظة.

فوائد الحدث كانت كثيرة أيضا، فهي ذكرتنا بهذه الحقيقة التي لا مفر منها وبضرورة الاستعداد لها ماديا ومعنويا، وذكرتنا بمراجعة سلوكنا وتصرفاتنا وعلاقاتنا بالآخرين، ولفتت الأنظار نحو حماية الطبيعة واحترامها. ربما بين أهم ما سمعناه كان كلام أحد الأكاديميين الأتراك عن ولده البالغ من العمر عشر سنوات والذي دخل خائفا مذهولا على والدته يوما بسبب ما سمعه من أحد أصدقائه حول اقتراب نهاية الكون فتمدد في حضنها يعترف بأخطائه وخطاياه طالبا أن تدعو له بالعفو والمغفرة وتشرح له ما يجري.

لم يأخذ بهذه الرواية سوى من يقف وراءها ولا يقرأون ويفهمون ما تقوله الكتب السماوية حول موعد وتاريخ يوم القيامة.

مايا لم تحقق لشيرينجا ما تريد من الانتعاش لكن خزعبلات شيرينجا أيضا خيبت آمال مايا في الانتعاش سياحيا واقتصاديا ودعائيا دون أن نتوقف عند ما جرى في جبال البيرنيه الفرنسية من ابتذال ودناءة.