عصر التشرذم

TT

سقى الله خمسينات القرن الماضي. فآنذاك، ومع أن أكثر من نصف العالم العربي كان يرزح تحت نير الاستعمار الأجنبي، كان التيار السياسي السائد على مستوى الشارع العربي هو تيار الوحدة أو التوحد تحت أي مسمى كان، ابتداء من «كونفيدرالية» جامعة الدول العربية وانتهاء بالوحدات الكيانية أو السياسية التي اختبرتها كل من مصر وسوريا واليمن والأردن والعراق.

ربما كان الاستعمار الأجنبي أحد دوافع التوجه العربي نحو التوحد. ولكن زوال الاستعمار لا يبرر انتقال العرب، في مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين - قرن الديمقراطيات والحريات والحقوق الإنسانية – من ذهنية التوحد إلى ذهنية التشرذم والفصام.

من مشرقه إلى مغربه يمر العالم العربي فيما يبدو، ظاهرا، أنه أزمة تأقلم مع القرن الحادي والعشرين، وباطنا أزمة هوية سياسية - قومية لم تستكمل بعد كل معطياتها الفكرية والاجتماعية.

تحدي القرن الحادي والعشرين جعل معظم الدول العربية تعاني من شرخ داخلي يتخذ أبعادا سياسية واجتماعية ومذهبية باتت من العمق بحيث تكاد أن تشطر كل دولة منها إلى دولتين، إن لم يكن قسمتها فعلا إلى دولتين وأكثر كما هو الحال مع السودان والعراق واليمن.

والملاحظ أن كل ذلك يجري في ظل اتساع الهوة الفاصلة بين ذهنيتين تتجاذبان حاليا الشارع العربي: ذهنية يطغى عليها منحى علماني ديمقراطي الخلفية وأخرى تتطلع إلى استنساخ تجربة «السلف الصالح» فيما يشبه التوق الرومانسي إلى الماضي المجيد.

كلتا الذهنيتين تواجه امتحانا عسيرا وأياما صعبة في عالمها العربي. وقد تكون المظاهرات الحاشدة وأعمال العنف التي قابل بها الشارع المصري «الإعلان الدستوري» للرئيس محمد مرسي مؤشرا أوليا عليها.

مشكلة دعاة المنحى العلماني في الحكم أنهم لم يستولدوا بعد دولة عربية واحدة يعتد بديمقراطيتها اللاطائفية وتمثيلها لكل شرائح أبنائها بحيث يطرحونها مثالا للدولة العصرية العادلة.

لبنان، المفترض أن يكون الدولة العربية الأكثر التزاما بمنحى علماني للحكم، لم يستطع أبناؤه الخروج من قوقعة صراعاتهم المذهبية منذ استقلال بلدهم عن فرنسا، فإن زعماؤهم قد «مذهبوا» السياسة عوض أن يسيسوا مذاهبهم ويلحقوا أبناءها بالنظام الديمقراطي الطابع على الرغم من هشاشته. وإذا كان ثمة إنجاز يذكر للتجربة اللبنانية «العلمانية» فقد يكون في ابتكارها لشكل من أشكال التقية الآيديولوجية تتوسلها لإضفاء أهداف سياسية على أحزابها المذهبية.

سوريا التي كانت مرشحة لأن تصبح دولة علمانية عصرية، فشل نظامها في تجاوز عقدتي قاعدتيه العسكرية والمذهبية والانفتاح على القرن الحادي والعشرين حتى يوم أتيحت له فرصة ذهبية لتحقيق تغيير ديمقراطي سلمي بالتوافق بين السلطة والمجتمع إبان ما عرف بـ«ربيع دمشق» عام 2000... فكان أن انزلق في مسار أوتوقراطي - سلطوي أفلح في تأخير اندلاع الانتفاضة الثورية عليه دون أن يفلح في وأدها في مهدها.

أما دعاة العودة إلى عهد «السلف الصالح» فليسوا أفضل حالا في وضعهم من دعاة الدولة العلمانية الديمقراطية. هم أيضا يفتقرون إلى الاستشهاد بالدولة المثال للتدليل على أن تجارب السلف، على الرغم من قيمتها العملية، قابلة للتطبيق في مجتمعات القرن الحادي والعشرين التعددية المعتقدات والمتنوعة المشارب. ويكفي أن تكون إيران المثال الأقرب إلى الدولة السلفية المنطلق لكي يقتنع الحريصون على الحريات العامة والحقوق الإنسانية بأن عصرها زال من عالم اليوم. فلا غرابة أن يتخذ الخلاف العميق على الدستور «الإخواني» في مصر أبعاد خلاف جذري بين ثقافتين وتوجهين حضاريين متناقضين.

في مجتمعات لا يزال طابعها الرعوي طاغيا على ما عداه، ليست مجرد صدفة تاريخية أن تذهب التجربة الحزبية العلمانية الأولى في العالم العربي، أي تجربة حزب البعث، ضحية العسكر وعائلتين متسلطتين في بغداد ودمشق. ولكن شعار الحزب الطوباوي، «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، لا يزال قائما في القرن الحادي والعشرين فأمة العرب ما زالت «موحدة» بشؤونها وشجونها وأمالها وآلامها، وقبل هذه وتلك، في تطلع أبنائها إلى عيش كريم في أوطأنهم.

أما المتغير الوحيد في شعار البعث فهو الرسالة الراهنة لأمة العرب: التشرذم لا الوحدة.