الربيع العربي: الاتجاه نحو ردة فعل رجعية

TT

يرى بعض المعلقين أن عام 2012 هو النسخة العربية من عام 1848 في أوروبا، ويعود السبب في ذلك إلى أن حركة ما يسمى «الربيع العربي» تشبه الاضطرابات الثورية التي أدت إلى تغيير الأنظمة في العديد من البلدان الأوروبية عام 1848.

ولو كان عام 2012 هو حقا النسخة العربية من عام 1848، فهل يصبح 2013 هو النسخة العربية من عام 1852، الذي شهد موجة من الانقلابات العسكرية في البلدان الأوروبية التي كانت قد شهدت ثورات، مما أدى إلى إقامة نظم رجعية استبدادية مرة أخرى؟ وعلى الرغم من أن المقارنات التاريخية قد تكون مفيدة في بعض الأحيان، فإنها قد تكون مضللة في أحيان أخرى.

وإذا ما نحينا جانبا الحالة السورية، فسوف نجد أن الأحداث التي أدت إلى التغيير في كل من ليبيا وتونس ومصر واليمن لم تكن نتيجة العمل الثوري بمعناه الكلاسيكي، ولكنها كانت نتيجة احتجاجات شعبية محصورة إلى حد كبير في المدن الكبرى تحت قيادة جماعات تم تشكيلها بصورة تلقائية من دون وجود جدول أعمال ثوري متماسك ومترابط. وعلى الرغم من أن القوى المنظمة، ولا سيما الإسلاميين واليساريين، قد انضمت لتلك الثورات في وقت لاحق، فإنها فشلت في الاستيلاء على القيادة. ولو نجحت إحدى هذه القوى في الاستحواذ على نصيب الأسد من السلطة، فإن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى الانتخابات التي تم الإشراف عليها من قبل الجيش التابع للنظام القديم، التي تمت مقاطعتها من جانب كتلة كبيرة من الناخبين.

وقد سقطت الأنظمة في تلك الدول نتيجة مجموعة متنوعة من الأسباب؛ حيث سقط نظام بن علي في تونس ضحية لنجاحه في الاقتصاد والتعليم، بالإضافة إلى فشله في كبح جماح الفساد وفتح الفضاء السياسي. لقد تحولت تونس إلى دولة ناشئة لديها اقتصاد قوي وطبقة وسطى مثقفة، ولكنها كانت تفتقر إلى الحرية السياسية التي تتناسب مع المستوى الاجتماعي والاقتصادي في التنمية.

في الواقع، كانت تونس في عام 2010 تشبه كوريا الجنوبية في السبعينات من القرن الماضي، عندما تجاوزت الحقيقة الاجتماعية والاقتصادية الجديدة إطار الدولة البوليسية التي كانت تحاول احتواءها. في كوريا الجنوبية، اضطر الجيش والدولة البوليسية الفاسدة إلى الرحيل، وقد مرت تونس بتجربة مشابهة لذلك، ففي كلتا الحالتين قرر الجيش أن لا يقاتل إلى جانب نظام يحتضر.

أما في مصر عام 2010، فقد منعت تناقضات النموذج الناصري النظام من وضع استراتيجية متماسكة. ومن الناحية السياسية، كان الرئيس مبارك يعاني من انفصام في الشخصية؛ فمن جهة كان يترأس نظاما نشأ بالقوة واعتمد على العنف على مدى عقود حتى يتمكن من الاستمرار، ومن جهة أخرى، كان يعتقد أنه رئيس منتخب في نظام ديمقراطي. ونتيجة لذلك، لم يتمكن مبارك من توظيف أي من هاتين الشخصيتين لاحتواء الأزمة. وأود أن أضيف أيضا أن مبارك، الذي أعرفه منذ السبعينات من القرن الماضي، لم يكن ليفكر أبدا في التشبث بالسلطة عن طريق قتل شعبه كما يفعل بشار الأسد في سوريا الآن.

وفي اليمن، نجد أن الأحداث التي أدت إلى رحيل الرئيس علي عبد الله صالح قد تسارعت نتيجة الصراعات المتأصلة والعداوات الطائفية والقبلية، وليس نتيجة أي برنامج ثوري.

وفي جميع الحالات، أدى ما يسمى «الربيع العربي» إلى تغييرات داخل الأنظمة الموجودة بدلا من أن يحدث تغييرا ثوريا.

ونعود مرة أخرى إلى السؤال الذي طرحناه سابقا: هل يصبح عام 2013 هو النسخة العربية من عام 1852 في أوروبا؟

وللوهلة الأولى، تبدو الإجابة: «نعم»، فكما نلاحظ بالفعل في كل من تونس ومصر واليمن تسيطر الأحزاب الإسلامية، التي لديها جداول أعمال تقليدية، على الحكومات، على الرغم من التحالف غير المريح مع الجيش والشرطة. وفي جميع الحالات، قد ينقض الجيش على السلطة، متخذا من الفوضى الاجتماعية أو التدهور الاقتصادي حجة للقيام بذلك.

لكني لا أعتقد أن العرب يتوجهون نحو أحداث 1852؛ فتونس وليبيا ومصر واليمن هشة للغاية سياسيا وغير قادرة اقتصاديا على دعم أجندة إسلامية متطرفة. وفي إيران أصبح هذا ممكنا لأن الشاه ترك خلفه اقتصادا قويا يمتلك واحدا من أعلى احتياطات العملات الأجنبية في العالم. وأسهمت عائدات النفط في تغطية أخطاء الملالي ومساعديهم. الأهم من ذلك، أن القوات المسلحة الإيرانية لم تدخل معترك السياسة، على عكس نظيراتها من العرب والأتراك والباكستانيين، ولم يكن لها أي تاريخ في السعي إلى السلطة فضلا عن ممارستها.

تعد ليبيا، بطبيعة الحال، حالة مستقلة.. فقد شهدنا هناك انهيارا تدريجيا وتفسخا في مؤسسات الدولة القليلة التي خلفها القذافي. لكن مشكلة ليبيا ليست في من يمسك بالحكم؛ بل في كيفية تشييد مؤسسات الحكم.

أيضا تأتي سوريا هي الأخرى بصفتها حالة مستقلة.. فما بدأ ثورة للحصول على الحرية، تحول إلى حرب أهلية وكارثة إنسانية.. وكل يوم يمر تتلاشى معه أي إمكانية للوصول إلى وضع انتقالي متفاوض عليه. وهناك إمكانية لانقسام سوريا وفق خطوط عرقية وطائفية، وقد تتحول أيضا إلى منطقة من دون دولة كصومال أخرى على البحر الأبيض المتوسط.

الشيء الوحيد المؤكد هو أن نظام الأسد محكوم عليه بالفشل. وفي كل دول الربيع العربي سيكون التحدي هو بناء مؤسسات الحكم في الدولة أو إعادة بنائها، التي من دونها لن يتمكن أي كان في سدة الحكم الاسمية من الحكم بأي طريقة ذات معنى.

أما من يصورون مرسي على أنه فرعون جديد، فيتعدون بذلك حدود المبالغة.. فمصر لن تقبل حتى بشبح الفرعون، ومرسي لا يتمتع بشبح السلطات الفرعونية.

إذا لم تكن دول الربيع العربي تتوجه نحو أحداث 1852 نفسها، فربما يعود ذلك في جزء منه إلى أنها، على عكس الدول الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، تفتقر إلى المؤسسات التي يمكن أن تمكن الحكام المستبدين الجدد من فرض السيطرة وممارسة السلطة.. فخيرت الشاطر، الذي يفترض أن يكون الذكي الشرير لجماعة الإخوان المسلمين، قد يحلم بفرض ديكتاتورية جديدة باسم الدين، لكن رؤية مرسي للأوضاع من الداخل جعلته يعلم أن مثل هذا الحلم ستحطمه الحقيقة.

وقد أكدت الشعوب في دول الربيع العربي على سلطتها، فلم تعد لعبة السلطة مقصورة على الجيش والأجهزة الأمنية، والجماعات الإسلامية ومجتمعات رجال الأعمال المرتبطة بها.

سلطة الشعب هي الفيل الذي ينبغي أن يدخل إلى المتجر الصيني دون أن يحطم كل شيء في طريقه. بعض القادة يدركون هذا ويحاولون، كل بطريقته، أن يبحثوا عن سبيل للتواؤم مع هذه الحقيقة.

ومع دخولنا عام 2013 ربما يكون التفاؤل الحذر هو الاستعداد الأفضل.