.. والمسيح يبشر بأخيه محمد.. «المسيحية الحقة مرجعية لنا»

TT

بدأ عنوان المقال بـ«واو العطف».. والمعطوف عليه هو كتاب ألفناه بعنوان «النبي محمد يقدم أخاه المسيح للبشرية».. فالمسيح يبشر بمحمد: معطوف على محمد يقدم المسيح.. وبشارة المسيح بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وردت في نص لا يتطرق إليه كذب قط وهو قول الله جل ثناؤه: «وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» (سورة الصف - آية 6).. وكلمة «يأتي من بعدي» موثقة بالسنة أيضا بعد توثيق القرآن.. فقد قال النبي محمد - صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد». فقول المسيح «يأتي من بعدي» موثق زمنيا أو تاريخيا أو وجوديا بقول محمد (صلى الله عليه وسلم): «ليس بيني وبينه نبي»، وهذا هو الواقع التاريخي الحق بلا نزاع.

وذكر النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في التوراة والإنجيل ورد في غير موضع من القرآن الكريم.. فبالإضافة إلى النص الآنف:

أ) هناك نص سورة الأعراف: «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ».. وهذه الآية حجة في صحة النبوة، وعصمة البلاغ من المغامرة في الحجاج والاستدلال. يقول الإمام فخر الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب»: «وهذا يدل على أن نعته وصحة نبوته مكتوبان في التوراة والإنجيل، لأن ذلك لو لم يكن مكتوبا لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله، لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات. والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن قبول قوله. فلما قال ذلك: دل هذا على أن ذلك النعت مذكور في التوراة والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته».

يتعزز ذلك بما ورد في «صحيح البخاري».. فقد روى البخاري أنه قيل لعبد الله بن عمرو: أخبرنا ببعض صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة فقال: إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا، وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تجزي بالسيئة الحسنة، وتعفو وتغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا بأن يقولوا: لا إله إلا الله».

ب) ومن تلك النصوص القرآنية التي توثق ذكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وذكر أصحابه في التوراة والإنجيل: أواخر سورة الفتح: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».

ومن صفة أصحاب النبي في مراجع أهل الكتاب أنهم (أي الصحابة) «أناجيلهم في صدورهم» – كما روى ذلك البيهقي في «الدلائل» - أي يحفظون القرآن حفظا في صدورهم، وهو معنى مؤيد بقول الله تعالى: «بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ».

ولقد تهيأ السياق – الآن – لسؤالين لا بد منهما:

السؤال الأول: لماذا الاستشهاد بمراجع أهل الكتاب؟

والجواب هو أن شرع من قبلنا هو شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما ينسخه.. وذكر نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) في التوراة والإنجيل لم ينسخ، بل جاء في القرآن ما يصدقه كما رأينا ذلك في آيتي: الأعراف والفتح.

ثانيا: أن الاستشهاد بـ«مبدأ» نزول الوحي على الأنبياء والمرسلين عند أهل الكتاب من مراجعنا نحن المسلمين.. وهذا هو البرهان من القرآن:

أ) «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى».

ب) «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ».. وأهل الكتاب – الذين يؤمنون بمبدأ نزول الوحي – هم أهل الذكر أو الوحي الذي تنزل على أنبيائهم من قبل.

ج) «وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ».. والذين عندهم علم الكتاب – الموحى به من قبل – هم أهل الكتاب.

هذه نصوص – ونظائرها كثير جدا – تتضافر على إثبات حقيقتين:

حقيقة أن الوحي الذي نزل على محمد (صلى الله عليه وسلم) مسبوق – من حيث المبدأ – بوحي نزل من قبل على أنبياء أهل الكتاب، وسائر النبيين والمرسلين.. وحقيقة أن الأنبياء يصدق بعضهم بعضا في هذا المجال. ولذا جاء القرآن مصدقا لما قبله من الكتب الموحى بها من الله: «وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ».

السؤال الثاني: ما المناسبة الزمنية لهذا الكلام أو الطرح؟

المناسبة الزمنية هي أنه في هذه الأيام يحتفي العالم المسيحي ويحتفل بذكرى ميلاد المسيح العظيم عيسى ابن مريم (صلى الله عليه وسلم). وللمسلمين ابتهاج – بلا ريب – بميلاد المسيح، ولكن على طريقتهم، فالمسلمون يفرحون بميلاد المسيح لأن ميلاده معجزة إلهية عظمى، ويفرحون بالإيمان به نبيا رسولا من أولي العزم من الرسل، إذ يعلمون أن الإيمان به شرط في صحة إيمانهم بنبيهم محمد (صلى الله عليه وسلم) ويفرحون به لأن القرآن الكريم عرفهم به: ميلادا سعيدا معجزا ومنهجا ورسالة وحبا وإيمانا ونشرا لذكره في العالمين.

يا أتباع المسيح في العالم: إني داع فآمنوا.. اللهم إنا نشهدك على أننا نؤمن بعيسى ابن مريم نبيا رسولا، وسلاما يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.. ونشهدك أنا موقنون ببشرى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث بشر فقال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».

ونختم الكلام بما نحسبه مهما جدا، وهو أننا في «قرن استغلال الدين» على نطاق واسع، وعلى نحو مخطط ومنهجي.. وحين نعمد إلى الحديث المستفيض عن العلاقة السوية بين الإسلام الحق والمسيحية الحقة.. فما ذاك إلا من أجل تجلية حقيقة هذين الدينين العظيمين.. ومن الاحتراس الواجب أن نقول بوضوح: إنه لا يحل لأحد مسلما كان أو مسيحيا أن يوظف هذه الحقائق في خدمة أجندات سياسية للوصول إلى أغراض سياسية أو حزبية، بينها وبين الديانتين أمد بعيد، جد بعيد.

ألا إن العلاقة بين النبيين العظيمين، المسيح ومحمد، هي علاقة بين «الكبار»، فلا يجوز - بحال - أن يصغرها الصغار، جهلا أو استغلالا خبيثا للدين.