«فهلجة» الدستور

TT

«فهلجة» هي اجتهادنا من تركيب «الفهلوة» و«البلطجة» بعد توقيع الرئيس المصري (المتهم بعدم تمثيل كل الشعب) لتطبيق ما تدعي أقلية سياسية أنه «دستور». بمزيج من الفهلجة والخداع والتلفيق تردد ادعاء بأن الشعب قبل مشروع دستور لا يمكن أن تنطبق عليه مواصفات الدستور.

وبلا تطرق إلى محتوى مناقض للديمقراطية، نركز على مدى قانونية الاستفتاء إجرائيا وشكليا، مما يشكك في قانونية النتيجة لقبول مشروع ما لا يمكن تسميته دستورا.

بمقاييس علوم السياسة وسوابق الممارسات الديمقراطية وشرعية القوانين وحتى المنطق الطبيعي للمجتمعات والسلوكيات البشرية يصعب وجود تعبير لغوي لوصف المهزلة التي شهدتها مصر سوى بكلمة مصرية مفهومة لطفل في السادسة أو شيخ في السادسة والتسعين، إنها «بجاحة».

التصويت على مرحلتين كان بمثابة بيع الترام للناخب. وحسب قانون الانتخابات (الذي لم يلتزم به رئيس الجمهورية) لا يبرر مرحلة ثانية في التصويت إلا في انتخاب مرشحين أشخاص. عندما لا يستطيع مرشح واحد حسم أصوات تفوق نسبة حددها القانون تظهر الحاجة إلى مرحلة ثانية كتصفية المباريات الرياضية، لاختيار واحد بين اثنين أو أكثر ممن تجاوزوا النسبة المحددة. أي اختيار أشخاص لمنصب أو لبرلمان وليس للاستفتاء بـ«نعم» أو «لا» على قضية محددة.

ولا سابقة لهذا التهريج في مصر، الذي لا وجود له في قانون الانتخابات.

الحركة الديمقراطية المصرية (من الخطأ تسميتها المعارضة لأن التيارات المناهضة لحكم المرشد تمثل أغلبية يضمون بين صفوفهم كل الديمقراطيين، فليس من المعقول أن يكون هناك ديمقراطي حقيقي يفهم المعنى العلمي للديمقراطية ويقبل بحكم الإخوان ولا بدستورهم) كشفت «الفهلجة» الإخوانية في حكاية التصويت على مرحلتين. الديمقراطيون يفسرون لعبة المرحلتين بافتقار التنظيم السري (ميليشيا الجماعة) عدديا إلى ما يكفي لممارسة البلطجة (فكرية وإعلامية وبدنية) في كل أنحاء مصر في يوم واحد لإرهاب الأغلبية للتصويت بـ«نعم» وإبعاد المصوتين بـ«لا» عن مراكز الاقتراع.

ورغم «الفهلجة» لم يستطع الإخوان وضع ما يكفي من بطاقات «نعم» في الصناديق ليكتسب الدستور عدديا قبولا يمكن الادعاء بشرعيته.

عبر تاريخ الإنسانية لا يكتسب دستور (أو تعديل دستوري) الشرعية إلا بموافقة ما يتراوح بين ثلثين إلى أثلاثة أرباع الناخبين (66% إلى 75%) شريطة تصويت أكثر من ثلثي المقيدين، وذلك في الأحوال العادية للدساتير التوافقية التي تصوغها لجنة قانونيين محايدة مستقلة سياسيا (كحال دستور 1923 الأعظم في تاريخ البلاد، وصاغته لجنة أغلبها من محامين دوليين ضمانا لحيادهم، وليس لجنة تمثل تيارا سياسيا جعلت من الدستور مصدر انقسام لا مصدر توافق).

شرط شرعية الدساتير هو الإجماع (consensus) وليس الأغلبية (majority)، فبديهيا أغلبية اليوم ستصبح الأقلية غدا لأنها طبيعة الحياة، أما الدساتير فهي بنيان تأسيسي لمشروعية النظام الثابت للأمة (التي تضم الدولة الثابتة والمؤسسات والحكومة والشعب).

التهريج الذي تمت به عملية الاستفتاء، و«بجاحة» التلاعب في قانون الانتخابات، يشكك في أي شرعية لنتائج التصويت حتى ولو كانت 100%، خصوصا أن من أدلوا بأصواتهم أقل من الثلث (17 مليونا فقط). من قال منهم «نعم» 62% (10 ملايين و693 ألفا، أي أقل من 13% من المصريين)، ولا يمكن حتى إقناع طفل في الخامسة أن هؤلاء أغلبية.

وعندما يوقع رئيس، منتخب بـ51% فقط من الناخبين، على دستور لم يوافق عليه سوى 10 ملايين من مجموع 88 مليونا (بافتراض أنهم بالفعل فهموا واستوعبوا كل نصوصه)، فإنها حركة غير مسبوقة في تاريخ الأمة.

وإذا تركنا جانبا مناقضة مواد الدستور لأبسط حقوق الإنسان والمساواة وحرية التعبير، فإن نص المشروع يجعل المصريين أضحوكة بين شعوب العالم. لجنة الهواة وأغلبهم جاهل بمبادئ القانون أو روبوتات يحرك مكتب الإرشاد خيوط أقلام الصياغة في أيديهم، لم يدركوا الفارق بين مواد الدستور والتشريعات القانونية، والقوانين المدنية والجنائية، واللوائح التنظيمية، والأوامر الإدارية، فجاء مشروع الدستور خليطا منها كلها.

ويبدو أن غياب تجارب الديمقراطية والتمثيل النيابي من البلدان العربية حرم لغة الضاد فرصة التطور لفظيا للحاق بالثورات القانونية والديمقراطية التي شهدتها أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين.

كلمة الدستور ترجمة ناقصة لتعبير «CONSTITUTION»، وهي اسم الفعل «CONSTITUTE» وتعني التأسيس. والكلمة بالإنجليزية وعاء كبير لمعانٍ ديناميكية مرنة يضاف إليها ويعاد تعريفها وتفسيرها. وتعني القانون التأسيسي لمجموعة أعراف وحالات مزاجية توافقية للأمة وقواعد للممارسة الأساسية. أي أنها أحجار الأساس، التي لا يمكن من التطلع إليها وحدها معرفة شكل البناء أو أغراض استخدامه، فهي مجرد القاعدة القوية لما سيبنى فوقها.

الدستور المصري الشامل لا يحتاج إلى أكثر من 18 مادة كقاعدة بنية قانونية أساسية. أما الدستور الإخواني فيضم مئات «الفقرات» وكأنه طبخة مجهولة من بقايا الأطباق يرفض الطباخ البخيل التخلص منها فقرر إعادة طبخها كلها مما يصيب الزبائن بتلبك معوي إن لم يمِتهم تسمما.

لجنة الصياغة خلطت بين المواد الأساسية (constitutional articles) والقوانين (laws) التي لا مكان لها في الدستور. فالقانون وعاء تنظيمي يؤطره تشريع برلماني (Act)، وكلاهما (القانون وإطار تطبيقه) قابل للتعديل والتغيير حسب تطور المجتمع، أما مواد الدستور فثابتة لا تتغير.

المضحك في مشروع الدستور تضمنه (process implementation) أسلوب التطبيق ومكانه الملاحق التفسيرية (appendix) للقوانين والتشريعات البرلمانية (act) لتفعيليها وليس الدستور.

ولأن القوانين عمياء تطبق بمساواة ولا تفرق بين أفراد أو مؤسسات ولا تسمح باستثناءات، يأتي دور لوائح التفصيل (regulations)، أو اللوائح الإدارية التنظيمية (Administrative Orders)؛ الأولى تؤطر لعمل المحاكم وتطبيق القوانين، والأخيرة للتنظيمات الداخلية للمؤسسات.

المهزلة أن الدستور تضمن مجموعتي اللوائح كمواد (articles). ولا يوجد في تاريخ المجتمعات البشرية دستور تتضمن مواده توصيف العقوبات، بل إن القوانين القضائية نفسها لا تتضمن توصيف العقوبات، بل تصفها لائحة (penal code) منفصلة (ملحق لقانون العقوبات «criminal law») لتمنح القضاة مرونة أخذ عوامل عدة كدوافع الجريمة لاختيار عقوبة مناسبة أو أيضا لتقدير مدى النفع أو الضرر على المجتمع من زيادة أو تخفيف العقوبة. لائحة العقوبات تختلف عن لائحة المخالفات (penalties code) في القانون المدني (civil law).

المضحك أن الدستور المصري الجديد بمواده الماراثونية ضم لوائح عقوبات جنائية ومخالفات مدنية ولوائح إدارية على أنها مواد دستور.

وحتى من دون التطرق إلى مخالفة الدستور لميثاق حقوق الإنسان أو صياغته «المسخرة»، فإن أرقام الاستفتاء وحدها تجعل من «فهلجة» الدستور مهزلة لا تليق بمكانة أمة كمصر في القرن الـ21.