حكومة الكنبة

TT

ونحن على بعد يومين من دخول السنة الميلادية الجديدة 2013، سوف ندخل السنة الثالثة كعرب في مرحلة ما بعد الاستقرار الهش الذي كان، مبدلينه بـ«لا استقرار» محتمل، والسبب هو حكومات الكنبة!

فالفكرة العبقرية التي أطلقها الشعب المصري على المتفرجين من الجمهور تجاه الأحداث الجسام التي تمر بالبلاد، بتسميتهم «حزب الكنبة» كان لا بد أن يتبعها أيضا توصيف مختصر آخر هو «حكومة الكنبة» الذي أتبناه هنا شخصيا، وهو تعبير أستخدمه بتصرف من التعبير الأول، لأني لم أجد حتى الآن تفسيرا لما حدث خلال العامين الماضيين في محيطنا العربي، إلا توصيف «حكومة الكنبة» التي راكمت جبالا من الأخطاء.

وإذا كان ثمة من يرغب في أن أقدم أمثلة لما أريد قوله، فسأبدأ بمصر الكبيرة. ففي سبتمبر (أيلول) 2010 عقد اجتماع في واشنطن بين باراك أوباما وكل من الملك عبد الله بن الحسين، ومحمود عباس وحسني مبارك (مع حفظ الألقاب)، ليس المهم ما نتج عن ذلك الاجتماع هنا، بل ما حدث في الإعلام المصري بعد أن غيرت جريدة «الأهرام» صورة الدخول إلى الاجتماع، فقدمت مبارك على من معه، وكان متأخرا في الصورة الحقيقية، ورغم الفضيحة فإن أحدا لم يرفع إصبع الاحتجاج وقتها من الإدارة المصرية لتطيح ببعض رؤوس المنافقين. وفي مثال آخر ومكان آخر، كانت صور الرئيس بشار ووالده من قبله، في كل مكان من مناطق سوريا، وتحتها شعار منافق آخر يقول: «الأسد إلى الأبد». ولم يتلفت أحد ليقول للمنافقين، إن الدوام لله وحده، وإن ابن آدم وإن طالت سلامته يوما ما سيكون محمولا على نعش! وهكذا زين العابدين بن علي ومعمر القذافي وعلي عبد الله صالح. تتعدد الصور والأشكال ولكن الفعل واحد، حكومات الكنبة تزين للطاغية صورهم. ضربت الأمثلة السابقة باختصار، لأني أرى أنه لو التفت أي قارئ فطن حوله لوجد عشرات الأمثلة، قد تختلف مع سابقتها في النوع، ولكن تشابهها في المحتوى والمضمون.

الأنظمة التي تستسيغ النفاق الصغير، تستسيغ النفاق الكبير، والتي تتغاضى عن الأخطاء الصغيرة تمرر الكبيرة، تلك هي فكرة «حكومة الكنبة» التي تسخر كل شيء لتقديس الحاكم حتى لا يرى إلا ما يرغب ولا يسمع إلا ما يشتهي، وبالتالي لا يستطيع تقديم حلول للمشكلات العالقة، فتتربى بيروقراطية لزجة تتشرنق حول قرارات الحكم وتتسرب إلى الوزراء ومن دونهم، وإلى السفراء ومن دونهم وإلى بيروقراطيي الدولة حتى أصغرهم، إلى أن تغيب الحقائق. ذلك يخلق دينامية العجز عن التصدي للمشكلات الاقتصادية والسياسية والمعيشية التي تواجه الناس في حياتهم اليومية، وفجأة وجدنا أنفسنا - بسبب حكومات الكنبة التي لا تريد أن تتعلم - أمام النتائج غير المرغوبة التي نعاني منها اليوم وسوف نستمر بنفس المعاناة غدا.

من مواصفات حكومات الكنبة، أنها تقدم القليل من التنازل في وقت متأخر، أشهر تعبير عن ذلك ما قاله بن علي «فهمتكم، فهمتكم» والذي كان اختصار الرد عليه «بن علي هرب، بن علي هرب». لقد كان ذلك الفعل ورد الفعل شيئا أشبه بالتراجيديا الإغريقية التي تنتهي لتبدأ من جديد. ومن المواصفات أيضا فقدان المخيلة الخصبة لتقديم حلول ناجعة للمشكلات بسبب فقدان الحرية، المطلوب من الجميع أن يوافق على ما يتم تقريره في المكاتب المغلقة، فيذهب الجميع إلى توصيف علاجي مبتور، بعد أن فاتهم وقت ثمين في الوقاية من آثار التقصير، لم يكن يسمح لأحد أن يقول إن التغيير مع الدموع، خير ألف مرة من التغيير مع الدم!

المشكلة الكبرى التي أراها الآن وسوف تواجهنا في عام 2013 وما بعده، استمرار وجود حكومات الكنبة، فالتغيير الذي حدث ويمكن أن يحدث - بأشكاله المختلفة في دول عربية كثيرة - كان تغييرا في الأشخاص لا في فلسفة الحكم أو حتى طريقته، فانتقلنا من «حكومة كنبة» إلى «حكومة كنبة أخرى» ليس إلا، وفاتت على الجميع أهمية إطلاق الحرية وبناء المؤسسات واحترام التعددية، واستمرار حكومة الكنبة التي هي ضليعة في بناء الأجهزة! وهناك فرق شاسع بين المؤسسات والأجهزة، والفرق هو مساحة الحرية!

الحكومات الجديدة تحاول إعادة بناء جدار الخوف، هذه المرة ليس بدافع أرضي، بل أكثر من ذلك، برغبة سماوية، في حالة هروب إلى الإمام للتهرب من دفع الثمن السياسي المطلوب، وهو إشاعة الحرية لجميع اجتهادات المجتمع وتمكينها من إسماع أصواتهم بلا خوف أو عقاب، سواء كان دنيويا أو أخرويا، ماديا أو معنويا! لقد كانت الحكومات السابقة تعتمد على أجهزة قوية - في نظرها - وشرعيات أرضية ضعيفة، أما الآن فتبني أجهزة قوية وشرعيات سماوية غير قابلة للاعتراض أو الفشل، مما يزيد من تعاسة الجمهور وحرمانه من الحصول على أدوات وأساليب التقدم.

لم أكن في السابق متفائلا من التغيير الذي حدث، ولم يكن ذلك بسبب تعاطف مع الماضي، فهو جزء مما تم في اللاحق وسبب أساسي فيه، ولكن لتقديري أن اللاحق لن يحقق الحداثة وأن القضية برمتها تتخطى الشكل لتصب في المضمون الثقافي. فالقوى الجديدة وإن اشتكت من ممارسات الماضي، تجدد هذه الممارسات لصالحها ضد مخالفيها، فترفض قبول فكرة التداول في السلطة من حيث المبدأ، وتتبنى اليقين بمعرفة الحقيقة المطلقة؛ بينما في الأعمال السياسية لا يوجد يقين مطلق.

ما يحدث من خلط بين «الديني والسياسي» يبشر بهروب متسارع إلى السماء عن حل مشكلات الأرض الحاضرة والمتفاقمة، بل وإرجائها إلى عالم آخر، أو نسبها إلى آخرين، وفي نفس الوقت فرض واقع لا يقنع بالعقل، بل يتوسل العاطفة الدينية، وهي عاطفة عميقة في فضائنا الاجتماعي العربي يمكن توظيفها بسهولة.

عند فقدان الحرية النسبية التي تتيح النقد وتقبل الآخر المختلف وتكشف ما خبئ من الحقائق، تسعى الدولة بدرجات مختلفة، ومتفاوتة في السرعة، إلى الفشل، وتكميم الأفواه، كما حدث في حكومات الكنبة الأولى، يمكن أن ينجح تكتيكها لفترة قد تطول نسبيا ولكنه لا يستمر، مهما وزع من صور، ومهما علق من لافتات، وأيضا مهما أسند الحاضر إلى فكر قدري وغيبي.

آخر الكلام:

الذين يقرأون ما بين السطور، وما وراء الأشياء، هم الذين يغيرون العالم، ومن يدفنون رؤوسهم في الرمال، تدفنهم بعد حين.. حكمة لسنة جديدة.