أي نموذج هي تركيا!

TT

عندما ينظر الساسة الغربيون إلى أخطائهم، ربما يكون العناد والمكابرة ضد إدخال تركيا إلى السوق الأوروبية المشتركة أكبر أخطائهم، فقد اختلط السياسي هنا بالآيديولوجي، وكان ذلك العناد قد أفاد تركيا اقتصاديا وسياسيا كما لم يتوقع الغربيون. حقيقة الأمر أن اثنين من الساسة الغربيين كانا الأكثر عنادا هما نيكولا ساركوزي رئيس الجمهورية الفرنسية السابق والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهما بالمناسبة لا يخفيان تعصبهما ضد الديانات الأخرى، أنصارهما السياسيون لا يرغبون في شريك اقتصادي كبير ومسلم، وحدها بريطانيا كانت الأكثر عملية في النظر إلى المصالح الاقتصادية معجونة ومدموجة بالسياسة، تقبل بدخول تركيا، وكانت الوحيدة من الأوروبيين الكبار الداعمة لفكرة دخول تركيا إلى السوق. الممانعة قدمت لتركيا طريقا جديدا مستفيدة من كل تلك الأخطاء التي وقع فيها الآخرون، لقد ولت وجهها نحو الشرق، متسلحة بكل ما تقدمه القوانين الحديثة الغربية من ضبط الجودة، فقفل باب دخول تركيا إلى السوق الأوروبية كشريك كامل أعطى المشرع التركي حرية عدم الالتزام بما يقرره القانون الأوروبي في الشؤون الاقتصادية، وقامت بإنشاء تسع عشرة منطقة اقتصادية حرة - حتى اليوم - لا توجد فيها ضرائب على الدخل للعمال، إن كانت تصدر خمسة وثمانين في المائة من إنتاجها للخارج، كما لا توجد ضرائب استيراد على الشركات العاملة فيها. وأمام الضغوط الضريبية التي تمارسها دول السوق الأوروبية على الشركات العالمية في الداخل والمطالب العمالية، وجدت تلك الشركات «الجنة» في الانتقال بمصانعها إلى المناطق الحرة التركية، مشغلة عمالا أتراكا لا يميلون إلى الإضراب وتعطيل العمل، ودون دفع ضرائب باهظة، العديد من الشركات الدولية في الصناعات الثقيلة والمتوسطة نزحت من أوروبا إلى تركيا.

تضع تركيا رجلا في الغرب ورجلا في الشرق، فهي عضو في حلف الناتو الغربي، الذي سهل لها أخيرا الحصول على تسليح متقدم، وهي تضع الرجل الأخرى في الشرق الذي يعتبرها أثرياؤه ملاذا لاستثمار أموالهم التي هددها ربيع العرب من جهة، وقوانين غربية صارمة من جهة أخرى، تلك المعادلة التي تجعل من الليرة التركية اليوم من أقوى العملات، بعد أن كانت فقط منذ سنوات قليلة خلت يفر منها أي مستثمر جاد. إن أضفنا إلى الضغوط التي يمارسها الغرب على دول ترغب في تسليح أنفسها، نجد أن تركيا لا تسأل أسئلة كثيرة، فهي على استعداد لتلبية المطلوب من المهمات العسكرية الخفيفة والمتوسطة دون ضجة كما يفعل اللوبي المناهض في الغرب، عند شراء أسلحة من تلك الدول.

أمام هذا الوضع الذي وجدت أوروبا نفسها فيه، مغلبة الآيديولوجي على السياسي، فتحقق تركيا نجاحات اقتصادية، تشن الأجهزة الإعلامية الغربية حملة على الأقل لتبرير فشلها سياسيا في النظر الحصيف، فتصعد من فكرة تركيا المتعصبة إسلاميا، والدليل الذي تقدمه هو حرية التعليم الديني الذي كان ممنوعا في السابق، يناقش الأتراك أن تلك الحرية قد أتيحت للأفراد من منظور تمكين الديمقراطية التي تقول إن أفراد المجتمع أحرار فيما يتعلمونه، وبالتالي يسمي الأتراك ما يفعلونه بالإصلاح التعليمي المنسجم مع الحرية. إلا أن تلك الحجج لا تجد آذانا صاغية في الدوائر الغربية، مع تصاعد الأزمة المالية للدول الغربية في عام 2013 كما هو متوقع، وأمام حافة الهاوية التي تواجه الاقتصاد الأميركي، يحقق الاقتصاد التركي نسبا عالية من النمو، بينما تتصاعد فيه درجات اللوم على السياسيين في الغرب، خاصة في ترك تركيا تحتفظ بالحسنيين؛ أبواب مفتوحة للأسواق الغربية في وجه المنتج التركي ذي الجودة، خاصة في السلع شبه المصنعة التي تحتاجها الصناعات الغربية، وفي الوقت نفسه التحرر من أية قيود مالية أو اقتصادية في التعامل مع الشرق أو الشركات الغربية التي تريد أن تخرج من نطاق التصاعد الضريبي.

جزء كبير من انتعاش الاقتصاد التركي هو الشرق، سواء روسيا أو الشرق الإسلامي، فقد تدفقت أموال ضخمة من الجانبين على السوق التركية، وأصبح الاستثمار هناك من أكثر الاستثمارات انتعاشا في السنوات العشر الماضية، ويتوقع له الاستمرار، خاصة مع دخول دول الربيع العربي إلى مرحلة استقرار والتفاتها إلى التنمية المعطلة، فليس أفضل من الشريك التركي. تركيا السياسية واعية لذلك، فهي نشطة في الموضوعين الفلسطيني والسوري، كما هي نشطة في الوصول إلى السوق المصرية الكبيرة، كما حققت نجاحا في السوق الخليجية، وتدخل هذه الأسواق بقوة لأن الأخيرة تحتاج تقريبا إلى كل شيء؛ من أدوات وأجهزة الأمن إلى الصناعات الغذائية. إلا أن الوضع الأهم للنموذج التركي ليس الاقتصاد، فالمنهج أن الهدف هو إيجاد هُوية جديدة لإسلام مستنير معتمد على الحوكمة الرشيدة واستقلال القضاء وتحييد العسكر وتحقيق ضوابط للرأسمالية الاجتماعية كما يسميها الأتراك.

يتوجه الإعلام الليبرالي الغربي الآن، كما فعلت صحيفة «الغارديان» في عددها الأسبوعي لنهاية العام، إلى لوم السياسيين الغربيين الذين فوتوا فرصة دخول تركيا إلى السوق الأوروبية بما تمثله من سوق منتجة ومستهلكة، وكونها بوابة طبيعية للشرق المسلم. هذا اللوم يأتي على خلفية أزمات اقتصادية داخلية للدول الأوروبية، الأمر الذي عكس ما كان في السابق من لهاث تركي على دخول السوق الأوروبية، أصبح الأوروبيون أو بعضهم على الأقل ينتبه إلى الفرص الضائعة بسبب حمق التعصب.

عدم الاستفادة من الفرص الذي تندم عليه بعض أوروبا اليوم، يمكن أن يتكرر في الشرق ولو بشكل آخر، ومع تركيا أيضا، يكرر الأتراك أنهم لا يقدمون نموذجا وجب الاحتذاء به في الشرق، وأن الحزب الذي حقق النجاح - الحرية والعدالة - هو حزب ذو نكهة إسلامية في دولة علمانية، إذ إن الدولة اليوم ليس لها دين، الناس والمواطنون فقط لهم أديان، كما أنه لا توجد ديمقراطية تستحق أن يقال إنها كذلك إلا إذا احتضنت الليبرالية كفلسفة في المجتمع، فلا يوجد ديمقراطي ومتعصب لمذهب، لأنه إن فعل ذلك خرج من الإطار المعقول للديمقراطية الحديثة.

نظر بعضنا إلى تركيا وكأنها حليفه دون شروط، هو الذي يؤهل إلى ظهور عقبات في المستقبل بين الفهم العربي والنموذج التركي. تركيا تبني نموذجها وعلى الآخرين أن يبنوا نموذجهم الخاص في عالم أصبح معتمدا على بعضه وأكثر قربا من بعضه، كما لم يحدث في تاريخ الإنسانية من قبل، نتيجة ثورة الاتصال التي تشبك العالم من شماله إلى جنوبه.

أصبحت تركيا اليوم مستقيمة على طريق التنمية، إلا أن العرب عليهم الاقتراب أكثر لفهم النموذج التركي الذي حقق حتى الآن نموا اقتصاديا في ظل هوية لا تتنكر إلى الماضي ولكن أيضا لا تخشى انتقاد السلبي منه.

آخر الكلام:

اليوم تدخل سنة ميلادية جديدة علينا، علها سنة تحفل بإنجازات عربية، بعد عامين من الاضطراب، هل ذاك توقع معقول؟ أم هو ضرب من الأماني؟!