طريقي إلى الأهرامات

TT

في مثل هذه الأيام من شهر يناير (كانون الثاني) عام 1974 وأثناء عملي كمفتش آثار أبو سمبل بالنوبة، استدعاني الراحل العظيم الدكتور جمال مختار، رئيس مصلحة الآثار في ذلك الوقت، وذلك لتكليفي بالعمل كمفتش آثار أول لأهرامات الجيزة. وفي هذا الوقت لم تكن الأهرامات بعد تجذبني وتستهويني؛ لأنني لم أكن بعد قد اقتربت من عظمة أسرارها. لم أكن أدرك أن هذا اللقاء سيغير مجرى حياتي. وقد بدأ مستشار الدكتور مختار، اللواء عودة، حديثه إلي قائلا، إن سرقة كبرى قد تمت ونجح اللصوص في سرقة بعض القطع الأثرية من مخزن أهرامات الجيزة؛ ومعظمها من حفائر كوم أبو بللو التي كنت أنا والدكتور أحمد الصاوي نعمل بها.

وكان أول ما عملته في الجيزة هو تغيير نظام الحراسة ووضع نظام محكم أشرف بنفسي على تطبيقه، فكان من عادتي الذهاب كل مساء للتأكد أن كل حارس في موضعه وأن الآثار مؤمنة ولم تكن لزيارتي اليومية مواعيد محددة، فكثيرا ما كنت أظهر في المنطقة في الواحدة بعد منتصف الليل. وليس هذا فقط، فبعد أن علمت أن قلة من الحراس يرتشون للتغاضي عن واجباتهم أخذت في مراقبتهم، وكنت أدس عليهم أصدقائي الأجانب لاختبارهم، وكان نتيجة ذلك أنني قمت فقط بالإبقاء على الأمناء وكانوا جميعا عند حسن الظن بهم.

وكانت الشرطة في ذلك الوقت تضيق الخناق على من سرق الآثار حتى قام اللصوص بتركها بالقرب من ترعة المنصورية بجوار المنطقة الأثرية. وبعد عودة الآثار قررت التركيز على أمرين: أعمال الحفائر وأعمال الترميم العلمي المدروس. وكان أن أصابتني الدهشة من رؤية مفتشي الآثار يجلسون في مكاتبهم من دون عمل حقيقي، وأردت عمل تغيير شامل بالمنطقة. وكانت إقامتي في مبنى استراحة الدكتور أحمد فخري، أحد أعظم الأثريين المصريين الذين تخصصوا في دراسة الأهرامات، وترك لنا أبحاثا مهمة عن آثار أهرامات دهشور، وكان يعمل بهذه الاستراحة عم ربيع - كما اعتدت أن أناديه - وكان طباخا ماهرا يعد لي يوميا طعاما شهيا وبأسعار رخيصة تناسب دخلي الضئيل. وبهذه الاستراحة أجمل شرفة رأيتها في حياتي تستقبل شروق الشمس وغروبها على الأهرامات كل يوم، وكانت تلك الشرفة أحد أسباب عشقي للأهرامات.

وكمفتش أول خصصت لي مصلحة الآثار عربة حكومية استخدمتها في عملي، وكان سائقي هو عمران، وكنت أناديه بعم عمران من قبل الاحترام لكبر سنه، الذي لم يمنعه بالعمل بكل جد وإخلاص ودون كلل أو ملل، وكان دائما ما يقول لي إنه طوال خدمته في المصلحة لم يعمل في حياته بهذا الشكل والمجهود، وكان سعيدا وهو يرى أن منطقة الهرم قد تغيرت إلى الأحسن. وكان من الأثريين الذين عملوا معي الأثري عاطف حسن وكان نشيطا محبا لعمله وقمنا معا بالعمل في حفائر مرمدة بني سلامة التي ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ، كذلك عملنا معا في حفائر أبو رواش، وللأسف ترك عاطف عمله في مصلحة الآثار وعمل مرشدا سياحيا لنخسر أثريا جيدا كان من الممكن أن نجني الكثير من عمله.

لقد تعلمت الكثير من خلال عملي في الآثار، بل إن الحقيقة أن كل ما تعلمته كان من خلال الآثار والعمل، وهؤلاء الذين اختلطت بهم طوال مشوار حياتي لا يمكن أن أنساهم طالما أنا حي. لقد بكيت أياما وأنا أدرس الدكتوراه في جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة عندما وصلني خبر وفاة عم عمران، رحمه الله وجزاه عن عمله بإخلاص خير جزاء.