أحلام العصافير

TT

الجماهير العربية، خصوصا في عصورها الحديثة، فتنت بالمظاهر الشكلية لبعض زعمائها إلى درجة (الهوس)، وإنني أشبههم بالفراشات التي تسعى عن طيب خاطر وهي مغمضة الأعين لترمي بنفسها في أتون نيران زعمائها الجهلة المستعرضين أمامهم ببزاتهم العسكرية وبقاماتهم الممشوقة الجوفاء، والداهية الدهياء أن هؤلاء الزعماء استغلوا (المكينة) الإعلامية التي هيأتها لهم الاختراعات العلمية الغربية، من صحف وإذاعات وتلفزيونات، فراحوا ينفخون بها أجسادهم أكثر وأكثر، وكلما نفخوها أكثر كان التصفيق والهتاف لهم أكثر وأكثر، إلى درجة أننا الشعب الوحيد في هذا العالم الذي اخترعنا أعجب وأغبى هتاف بالدنيا وهو القائل: بالروح بالدم نفديك يا (زعطان).. فلا غرابة إذن لو كانت نسبة انتخابهم المفبركة هي: 99,999%، بل و100%.

والمفارقة أن كل هؤلاء الزعماء الخطباء عشاق (الميكرفونات) والاستعراضات وأصحاب (الظل الطويل)، مثلما وصفهم تلميحا لا تصريحا الشاعر محمود درويش، ولكنهم في النهاية ذهبوا إلى مستودع التاريخ ولا أقول مزبلته، غير أنهم مع الأسف ذهبوا بعد أن كبدوا أمتهم الهزائم تلو الهزائم المجانية، وكأن لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر.

وإنني والله لفي حيرة، كيف تقرأ هذه الأمة التعيسة في تراثها وأشعارها مثل: (أجسام البغال وأحلام العصافير)، أو:

ترى الرجل النحيل فتزدريه

وفي أثوابه أسد هصور

حتى الشعر الشعبي النبطي كان له مساهمة في هذه اللفتة عندما قال الشاعر: لا يغريك بالرخم كبر الأزوال، ولا النسور المهدفات المحاديب، كيف لم تهتز هذه الأمة؟! كيف لم تخرج على الأقل عن طورها؟!

ولكي أخرج نفسي أنا قسرا من هذه الدائرة المقرفة الآسنة دعوني أدخل في دائرة هي أكثر لطفا وأقل مشقة، وهي كذلك تدل على الافتتان بالمظاهر، وآه على المظاهر، أنا لا يفتنني غير مظهر الحسناء الممشوقة القد.

عموما فقد قرأت هذه الكلمات للطبيب والشاعر المبدع إبراهيم ناجي، وذلك في الأربعينات من القرن الماضي يقول فيها: لقد أتعبتني قامتي القصيرة والضئيلة تماما، وفي أحد الأيام ذهبت إلى وزارة الداخلية لمقابلة شقيقي الموظف هناك الأستاذ مصطفى ناجي، فأوقفني عسكري الباب وسألني بخشونة: على فين يا أفندي؟!، فقلت له: على وجهتي، فقال: وبتشتغل إيه؟! فأجبته: دكتور، فنظر لي من فوق إلى تحت وكأنه استكبر المهنة علي وقال: أمال انت صغير ليه؟! فأجبته على الفور: أصلي دكتور أطفال.

وأختم هذه المقالة (الحلمنتيشية) بهذه الأبيات للشاعر نفسه، وهي من قلائل الشعر التي نظمها مازجا الفصحى باللهجة الشعبية ويقول فيها:

أنا طير على بساط رياح

كل ما في الوجود ما يهمنيشي

فقلت للأرض حينما طرت عنها

أنا فوق التراب ما أمشيشي

وجناحاي ينقلاني من أسوان

خطفا لما وراء العريش

عجبا أنقر الرجال بمنقاري

ولكن الأيام تنتف ريشي!!

ولو أن هناك إنسانا حصرني الآن (بكورنر) وسألني: وأنت يا فالح ماذا تكون؟ ما هي هيئتك؟ لقلت له دون تردد: أنا من أجسام العصافير وأحلام البغال، ولا فخر.