فصل الدعوة بمفهومها التخصصي.. عن السياسة بمفهومها الاحترافي

TT

من الجناية على الإسلام ودعوته «الخلط» بين الدعوة بمفهومها التخصصي والسياسة بمفهومها الاحترافي. إن الدعوة بمفهومها التخصصي هي الدعوة إلى الله تعالى بشروط أربعة هي:

1) العلم بالله وبما أنزل.. فلا يحق لجاهل أن يدعو إلى الله.

2) البصيرة، فلا يحق لمطموس البصيرة أن يدعو إلى الله.

3) التواضع والرفق اللذان لا يكتنفهما كبر ولا فظاظة.

4) أن تكون الدعوة إلى الله ودينه بإخلاص تام لله وحده لا شريك له: لا يبتغي بها الداعية غرضا آخر قط، سواء كان هذا الغرض ماليا أو سياسيا.. أو مثل ذلك من الأغراض المفسدة لطهارة الدعوة الخالصة.

ولقد أجمل القرآن الأغراض الأخرى كلها في كلمة «أجر»، وهو أجر اشترط منهج القرآن نفيه بإطلاق، وإماطته عن طريق الدعوة الحقة.

وحقيقة الأمر أن تجريد الدعوة وخلوصها لله وحده هو منهج الأنبياء جميعا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. مثال لذلك ما قاله الأنبياء نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام لاقوامهم: «وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين».. وأيضا قال محمد (صلى الله عليه وسلم): «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين. إن هو إلا ذكر للعالمين».

وحدث أن نوّع مشركو مكة الأجور الجاذبة كلها وعرضوها على النبي (صلى الله عليه وسلم): أجر الملك والسلطان.. وأجر المال والثراء.. وأجر العافية والشفاء من كل سقم.. فقالوا له - بوضوح: «إن كنت تريد ملكا ملكناك علينا. وإن كنت تريد مالا جمعنا لك من أموالنا ما تشاء حتى تصبح أغنى رجال مكة والعرب. وإن كان ما بك مس من الجن جمعنا لك أمهر الأطباء ليعالجوك».. فرفض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه العروض والأجور جميعا. وقرأ على من قام بالعرض صدر سورة «فصلت»، وهي آيات تركز على حقائق الدعوة وأصولها ومقاصدها التي لا تقبل مساومة ولا مراهنة ولا مضاربة ولا استغلالا من أي نوع.

ومن هنا، فإن الدعوة النقية حين تتعكر بأغراض سياسية (حزبية أو انتخابية أو دعائية) فإنها تُرزأ بما يطفئ نورها، ويلوث نقاوتها، وينفر منها.

مثلا: عند ربط الدعوة - في صورة من الصور - بدعاية انتخابية لبرنامج حزبي ما، فإنها تتلطخ بما تلطخ به ذلك الحزب من قصور وأخطاء وخطايا وبلايا. ومن ثم يكون هذا الربط جزءا من الصد عن سبيل الله.

ولقد أعجبني ما قاله شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، منذ أيام: «لا علاقة للاستفتاء على الدستور بفتاوى الحلال والحرام». ومن الواضح أن هذا الكلام العميق النفيس جاء ردا على من زعم أن قول «نعم» حلال، وأن قول «لا» حرام!!.. وكلام شيخ الأزهر أقرب إلى الحق، ذلك أن المسائل الخلافية لا يُفتى فيها بحلال ولا حرام، كما هو مقرر عند أئمة الإسلام الثقات.

عجبا.. وأي عجب!!

لماذا جرّ دعوة الإسلام إلى معترك سياسي أسلحته: الحجة السياسية، والتقدير العقلي، والقدرات الذكائية على المناورة والتكتيك؟!

السبب - في الغالب - أن كثيرا من الدعاة والمتدينين (حزبيين أو غير حزبيين) ينقصهم العلم بالسياسة من حيث أصولها وممارساتها وحساباتها الموضوعية والزمنية، كما تنقصهم «الذهنية السياسية» المتسمة بالهدوء والرويّة وبعد النظر.. ينقصهم ذلك كله في الوقت ذاته الذي يصرون فيه على الخوض الهائل في السياسة، وعندئذ يلجأون إلى تعويض النقص في المقدرات السياسية بسوق نصوص دينية دعوية يحفظونها. فيخلطون - بسبب هذا النقص - بين الدعوة والسياسة، وأحيانا يتبدى الخلط في صور مضحكة!!

ويبدو أن لهذا الخلط «سكرة»، وإلا فإن العبرة العميقة ماثلة في الخلط - من قبل:

أ) بين الإرهاب والجهاد، فقد بيّت أقوام من المسلمين النية والعزم على استخدام العنف الدامي كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية (ومن الغريب أنهم اعترفوا بذلك)، ثم نفذوا عزيمتهم في أعمال إرهابية دموية تصدم كل ذي ضمير إنساني حي.. ولقد ترتبت على هذا الخلط جناية جسيمة تمثلت في إيذاء الإسلام والمسلمين، وكأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة»، بل كأنهم تحالفوا - بالأهداف - مع أعداء الإسلام الذين يفرحون بتشويه صورة الإسلام بمثل هذه الأعمال الإرهابية الإجرامية.

ب) والخلط بين «العمل الخيري» والإرهاب، وهو خلط انبنى عليه تجفيف منابع العمل الخيري أو محاصرتها في أضيق نطاق: من بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وإلى يوم الناس هذا.. وبديهي أننا لا ندين العمل الخيري بالمنطق ذاته الذي تدين به دوائر معروفة تَعُد هذا العمل الخيري الإسلامي منافسا له في ساحات دولية عديدة. بيد أنه من الأمانة أن يقال إن من المسلمين من ربط - ببلاهة أو حمق - بين العمل الخيري الإسلامي والإرهاب، من خلال تمويل أعمال إرهابية بأموال خيرية، فكان ما كان من آثار إجرامية منها - مثلا - حرمان ملايين المحتاجين والملهوفين من ثمار هذا العمل الخيري.

ما معنى هذا الطرح؟

هل هو تكرار - مثلا - لما قاله الأستاذ خالد محمد خالد - رحمه الله - في كتابه المثير «من هنا نبدأ»، حيث طالب بفصل الدين عن الدولة، خشية على الدين من لوثات السياسة وألاعيبها وسقطاتها؟

نقول: الأمر ليس كذلك.. ففي مقولات المفكر البارز خالد محمد خالد صواب وخطأ.. أما الصواب فهو أن ربط الدعوة بالسياسة مظنة نفور من الدين نفسه، بسبب النفور العام من السياسة والسياسيين في الغالب.. وهذا الجزء من كلام خالد هو ما نؤكد عليه في هذا المقال.. وأما الخطأ في كلامه فهو أنه لم يكتف بنقد الممارسات الخاطئة الملتصقة بالإسلام، بل صعّد نقده للإسلام ذاته حين زعم أنه ليس في الإسلام دولة. وعلى كل حال فإن الرجل الحي الضمير، الرجاع إلى الحق، المتجرد للدعوة بلا أغراض سياسية أو حزبية، قد راجع نفسه فتراجع عن هذا الزعم وسجل تراجعه - بشجاعة نادرة - في كتاب كامل اسمه «الدولة في الإسلام»، وهذا سلوك فكري نادر بين الكتاب العرب والمسلمين، لا سيما في العصور الأخيرة.