مقولات 2011 التي سقطت في 2012

TT

الحدث التاريخي الضخم الذي جرى في بعض الجمهوريات العربية في 2011 صاحبه بطبيعة الحال تفجر في الرؤى والأفكار والتحليلات والمقولات، ولم يقتصر تأثير الحدث وموجاته على دوله التي حدث فيها، بل شملت قراءته والتفاعل معه كل الدول العربية والمنطقة والعالم بأسره، أصاب بعض تلك الرؤى والأفكار وأخطأ بعضها الآخر، لكن المقولات الأولى التي تم الترويج لها بكثافة وحماسة اتسمت بكونها عاطفية جياشة لا عقلانية واقعية، وإن حاول البعض أن يكسوها رداء فكريا ويبرر لها ما استطاع.

لقد تبنت تلك المقولات تيارات وجماعات، وساسة ومفكرون، وكتاب ومثقفون، وروجت لها ما استطاعت وسائل إعلام كبرى ورؤوس أموال ضخمة، بعضها موجه وبعضها كان يفتش عن بصيص ضوء وسط كثافة الضباب، واليوم وحين تجلى المشهد عن كثير مما كان محل جدل ومثار نقاش يصبح استحضار أهم تلك المقولات وتسليط الضوء عليها مهما ونافعا بقدر ما يكون الوعي بالتاريخ مفيدا في قراءة الواقع واستكناه غيب المستقبل.

من تلك المقولات أن ما جرى ويجري في العالم العربي هو ثورات بالمعنى الحديث للكلمة، والذي ثبت هو أن قصارى ما يصح في وصفها هو أنها انتفاضات واحتجاجات كبرى، فهي ليست ثورات لعدة أسباب، منها أن هدفها ليس العلمانية كما أوضحت حنة أرندت، وأنها لم تأت كنتيجة لتراكم علمي ومعرفي وفلسفي ضخم كالذي جرى في أوروبا عبر قرون.

ومن تلك المقولات الخاطئة تشبيه ما جرى عربيا بالثورة الفرنسية، والأمر ليس كذلك فالسبب الأخير السابق ظاهر، فلا مصر هي فرنسا ولا القاهرة هي باريس، والصحيح أن ما جرى عربيا يمثل نموذجا خاصا، لكن إذا اعتبرنا التشبيه لازما وهو ليس كذلك فإن الأقرب هو تشبيه ما جرى في العالم العربي بما جرى في روسيا حيث قامت انتفاضات عارمة حصدها حزب منظم هو الحزب الشيوعي، ثم سيطر على الحياة السياسية برمتها، وأكثر قربا التشبيه بالثورة الإسلامية في إيران، حيث الإخوان المسلمون يسيطرون ويحكمون قبضتهم شيئا فشيئا على الدول التي نجحت فيها الانتفاضات.

ومن تلك المقولات التي خرجت بعد انتشار الفوضى المقولة التي تبرر تلك الفوضى بناء على اعتماد نموذج موحد للثورات مأخوذ من الثورة الفرنسية، وتم عرض هذا النموذج كالتالي: يحدث هياج جماهيري يسقط نظاما، تتبعه فوضى واسعة، ثم تقوم الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة، وهو نموذج ثبت أنه نموذج غير علمي بحال، وفي حال محاكمته تاريخيا نجد أنه قابل للنقض في كل جزئية منه بأحداث تاريخية معروفة.

انتشرت في 2011 مقولة ترى أن «الجماهير» هي جماهير فاضلة ونبيلة تصنع المعجزات وتتحلى برؤية سياسية صائبة وتتمتع بأخلاق سامية، وأنها يجب أن تقود المشهد العام، ويجب على النخب أن تتوارى، وهي مقولة اتضح خطؤها بكل تفاصيلها، فالجماهير ليست فاضلة دائما، وهي أعجز عن تكوين رؤية سياسة وأخلاقها كأخلاق الأفراد متباينة حد التناقض، وقصارى ما فعلته في حال هياجها أن أسقطت نخبا وفتحت المجال لنخب جديدة قد تكون معها وقد تكون ضدها.

يمكن اعتبار مقولة «فزاعة الإسلاميين» واحدة من أكثر المقولات انتشارا مطلع 2011، وكان يراهن عليها كثيرون اعتمادا على زخم الجماهير وهتافاتهم وشعاراتهم التي توحي بالمدنية والتحضر لا الأصولية، وأن خطر الإسلام السياسي والجماعات الأصولية لا يعدو أن يكون فزاعة صنعتها الأنظمة السابقة وليس لها كبير تأثير في المشهد المعاصر، وقد ثبت في 2012 أن هذه المقولة من أكثر المقولات خللا وخطلا، فقد خرجت الجماعات الأصولية من تحت الرماد وفرضت سيطرتها على المشهد السياسي والشعبي وأخذت كل السلطات في الدولة ما بعد الانتفاضات.

وترتبط بهذه المقولة مقولة أخرى تفترض أنه حتى في حال فازت الجماعات الأصولية بالانتخابات وسيطرت على المشهد السياسي فإن الديمقراطية التي جاءت بهم كفيلة بالذهاب بهم، وها هي المؤشرات تتصاعد في أكثر من بلد محتج ومنتفض على أن هذه الجماعات لا تنتوي الذهاب، وهي تجهد في الاستيلاء والاستحواذ على كل السلطات في الدولة، وهي تخطط لبناء آلية ديمقراطية خاصة يضمنون من خلالها استمرارهم في الفوز بصناديق الاقتراع لسنوات طويلة ماضية، ولهذا نماذج في التاريخ لجماعات وأحزاب آيديولوجية وصلت عبر صندوق الاقتراع ثم كفرت به وألغته أو صاغت آليته على عينها، بحيث تضمن استمرارها في السلطة، هذا مع التأكيد على جناية اختزال معنى الديمقراطية في صندوق الاقتراع.

كحقبة تاريخية كاملة مر العامان المنصرمان.. ضخامة أحداث وسعة انتشار وحمولة تناقضات واضطراب رؤى وصراع أفكار، وهي حقبة لم تنته بعد بل للتو بدأت، وحين يصدق التبصر في شدة الجدة والاختلاط فإنه يفترض أن يكون أكثر قدرة على تلمس الحقائق بعدما يتشكل لها سياق تستقر أبرز معطياته ومكوناته ويتم فرز صراعاته ومصالحه.

كان الحدث ضخما، لا بتأثيره السياسي والآني فحسب بل بحجم ما اكتنزه من معطيات الهوية والدين، والطائفة والمذهب، والعرق والقبيلة، تلك المعطيات الكبرى التي اتضح بجلاء خطأ من ألغاها أو من لم يقم لها اعتبارا أو من لم يشعر بها أصلا، وهي معطيات وإن لم تبد في صدر مرجل التاريخ فإنها لم تزل تغلي بداخله وهي تقذف بحممها كلما نضج لها الواقع وواتتها الفرصة وسنحت لها الوقائع.

هذا جانب يجب ألا يغيب، بل ينبغي أن يكون حاضرا في أي محاولات استشراف للعام الجديد 2013 من حيث قراءة المشهد قراءة واقعية لا تنتمي للأسطورة ولا تعتني بالحلم بقدر ما تسعى لبناء تصور يكون قريبا من الأحداث ملتصقا بالوقائع.

سيشهد العام الجديد 2013 محاولات حثيثة من القوى الأصولية والإسلام السياسي للاستحواذ على ما تبقى من سلطات، وسيقمعون بقوة الدولة أي محاولات للاحتجاج عليهم إن بإحالة خصومهم للمحاكم وإن بمنع المظاهرات وإن بغيرها من السبل التي تبقي أيديهم مطلقة في تعزيز سلطاتهم وقمع الخصوم.

لم تزل جماعات الإسلام السياسي في مصر وتونس متأرجحة تجاه القوى المتصارعة في المنطقة، أي بين إيران ومن يتبعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن ونحوها، وبين دول الاعتدال العربية وعلى رأسها السعودية ودول الخليج، وسيكون عليها في هذا العام أن تحسم خياراتها.