اقتراح جديد للانتخابات في مصر

TT

هذا عصر الــ(Delivery)، أي تسليم الطلبات في المنازل، إنه عصر تخفيف الأعباء على البشر لكي يتفرغوا لما هو أكثر جدوى. تلبية احتياجات البشر هو أهم مطلب في العصر الحديث. في اللحظة التي تقرأ فيها هذه الكلمات يكون مئات آلاف الشبان راكبي الدراجات النارية والعادية يتقافزون بين السيارات في طريقهم إلى بيوت البشر يحملون لهم ما طلبوه بالتليفون. هي صناعة جديدة، ربما يعمل فيها الملايين في عواصم العالم ومدنه. أجيال هذه الأيام ربما لا تمثل هذه الحكاية أي أهمية بالنسبة لهم، غير أن هؤلاء الذين عاشوا عصر الطوابير على السلعة وأنا منهم، يرون أن هذه الظاهرة تمثل تطورا غاية في الأهمية في تقدم البشر. في أربعينات القرن الماضي، كنت المكلف شراء فول الإفطار للأسرة، طفل صغير يقف في زحام الكبار أمام محل عم مصطفى، من الصعب أن يراني الرجل، لذلك كان اعتمادي على صوتي وحده لجذب انتباهه: عم مصطفى.. بتعريفة فول وزيت، وكتر السلطة.

التعريفة هي خمسة مليمات، يعني نصف قرش، والجنيه مائة قرش، ولكن الرجل ملتفت فقط للكبار أصحاب الأصوات القوية والأجسام الطويلة، مرة أخرى أرفع صوتي إلى أن يصل إلى حد الصراخ بعد أن أدعمه بقدر كبير من التوسل: والنبي يا عم مصطفى.. إلهي يخليك يا عم مصطفى.. عم مصطفى.. والنبي..

يبدو أن هذا المشهد سيعيش معي إلى الأبد، فحتى الآن أنا أصرخ مستخدما حروف الكتابة لكي ألفت نظر العاجزين عن الرؤية والسماع. أنا فقط أحاول أن أنقل إليك فكرة جديدة، لن يستوعبها أحد الآن ولكني واثق بأن حكومات الأرض ستعمل بموجبها في وقت قريب. إذا كان هذا هو عصر تلبية احتياج البشر وهم في أماكنهم، وإذا كانت الديمقراطية في هذا العصر تمثل احتياجا لا تقل أهميته عن كل سلع البقالة الموجودة في السوبر ماركت، أليس معنى ذلك أنه قد جاء الوقت الذي نقوم فيه بتوصيلها إلى المنازل أو إلى المكان الذي يحدده الزبون؟

يقولون إن صندوق الاقتراع ليس هو الديمقراطية ولكنه خطوة من خطواتها، حسنا.. لنبدأ بهذه الخطوة، ولنفتح الحوار حول طريقة تنفيذها، لقد وقف المصريون لأول مرة في تاريخهم في طوابير طويلة أمام لجان التصويت في الانتخابات، وتحملوا الإجهاد الشديد بدافع من الأمل في مجتمع جديد يوفر لهم العيش والعدالة والكرامة الإنسانية، ولكن تحقيق هذه الأهداف تأخر عنهم طويلا ولا يوجد في الأفق ما يشير إلى قرب تحققه، لقد قامت الناس بتأدية واجبها، ثم انتظروا أن ترد عليهم السلطة والنخبة بأداء مماثل ومكافئ، ولكن ذلك لم يحدث، فكانت النتيجة هو فقدان الحماسة للذهاب إلى الصندوق، كان ذلك واضحا في الاستفتاء الأخير، وهو ما يجعلني أتوقع المزيد من الأسماء في كشف الغياب في انتخابات مجلس الشعب المقبلة، إنه اليأس وبهتان الأمل يا سادة! إنني أشاهد باهتمام كل حوارات الصفوة السياسية، هناك يقين عندهم جميعا أن الناخب يعمل عندهم وتحت إمرتهم، عليهم فقط أن يفكروا وأن يخرجوا عليه بأفكارهم السياسية العبثية، وعليه هو أن يخرج في الصباح يوم الانتخابات ليدلي بصوته.. عليه أن يقف أمام محل عم مصطفى لساعات طويلة ويصيح: والنبي يا عم مصطفى.. بعشرين جنيه فول وزيت وكتر السلطة.. والنبى يا عم مصطفى.. شوية أمن.. شوية هدوء.. بلاش والنبي القوانين والقرارات الانتقامية والشطة اللي بتحطها في قدرة الفول.. إلهي ربنا يخليك.. شوية عقل.. وكتر السلاطة.

يتكلمون جميعا بثقة وكان قطيع الناخبين ينتظر منهم إشارة ليحتشد ويقف بالساعات الطويلة أمام صناديق الانتخابات. إن أسوأ شيء يصيب رجل السياسة هو الاعتقاد بغير أساس أن الناس ستطيعه في اللحظة التي يشير لهم بذلك.

لعلاج هذا الأمر، لا مفر من توصيل الطلبات الديمقراطية إلى المنازل، وهو ما يتطلب إعداد قاعدة معلومات جديدة عن كل ناخب، وهي موجودة بالفعل، فقط سيضاف إليها عنوانه ومظنات وجوده، عنوان مكتبه، ورشته، المقهى الذي يرتاده، عنوان حماته، وأي أماكن أخرى يتردد عليها. وحتى الأماكن التي يريد إبقاءها سرا، يمكن معرفتها بواسطة تحريات المباحث بشرط الاحتفاظ بها سرا وعدم إعلانها، ربنا أمر بالستر. المهم هو الوصول إليه والحصول على صوته. لجنة الانتخابات هنا لن تكون ثابتة، بل متحركة تستخدم الموتوسيكلات، آلاف من شباب الأحزاب ينطلقون إلى الناخبين.. السيد فلان؟ بطاقة حضرتك الانتخابية، شكرا.. اتفضل حضرتك.. دي استمارة القائمة، ودي الاستمارة الفردية.. ودي الاستمارة للي مش فاهمين فردية يعني إيه وقوائم يعني إيه.. اتفضل حضرتك ورا الستارة اختار اللي انت عاوزه.. وفي حال عدم وجود ستارة يمكن أن يملأها في الحمام.

هذه الإجراءات ليست جديدة تماما على السياسة، هذا هو بالضبط ما تفعله كل الحكومات عند تسجيل التعداد العام، تذهب إلى الناس لتحصيهم، فلماذا لا يحدث ذلك في الانتخابات؟ بهذه الطريقة وحدها، نضمن على الأقل 90% من عدد الناخبين المسجلين، وبذلك نشعر بالفخر أمام الأجانب الحشريين الذين يتدخلون في شؤوننا الخاصة.

بالطبع، أنا أعرف أن تنفيذ هذا الاقتراح سيواجه بعقبات كثيرة، ولكنها جميعا قابلة لأن تكون تحت السيطرة، عندك مثلا إشراف القضاء، سيظل هو هو، فقط ستخصص له سيارة يراجع فيها مجهود المحصلين للأصوات، كما يمكن تزويد اللجنة المتحركة بسيارة شرطة «قسم شرطة متحرك»، يتوجه إليها المواطن لتسجيل محضر في حالة المخالفات. ولتحقيق الشفافية، من الضروري أن تكون جدران هذه السيارة زجاجية، حتى يرى الغادي والرائح ما يحدث بداخلها (يمكن تركيب ستائر كثيفة على الجدران الزجاجية في حالة الضرورة القصوى، لكي لا يشعر رجال الشرطة بأنهم محرومون من نشاطهم التقليدي في مواجهة بعض البلطجية) وللتغلب على مشكلة أعداد القضاة المطلوبين في حالة وجود متاعب تمنعهم من الإشراف على الانتخابات، يمكن على المدى البعيد عمل قضاء خاص بالانتخابات وحدها، هناك قضاء جالس، وهناك قضاء واقف وهم المحامون، فلماذا لا يكون هناك قضاء انتخابات متحرك؟

إن الهدف من اقتراحي هذا هو حماية السلطة في مصر من عمليات التشهير التي ستقوم بها دول أخرى عندما تقل أصوات الناخبين إلى درجة معيبة. نقطة الضعف الوحيدة في هذا الاقتراح هو الوقت الذي ستضيعه الحكومة في دراسته، وهو ما يعرضه للاختطاف أو السرقة، أخشى أن تسرقه فرنسا أو إنجلترا وتطبقه قبلنا، بعدها بالطبع سنتهم بأننا نقوم بتقليد الغرب وهو ما يتنافى مع تقاليدنا وتراثنا وخصوصيتنا.