مقهى النشاط عالمنا

TT

الكسل والنوم من المظاهر التي يمعن الغربيون في اتهامنا بها. سمعت مؤخرا أحدهم يعزو أزمة اليونان الحالية إلى كسل الشعب اليوناني. فهو ظاهرة مديتريانية (منطقة البحر المتوسط). تتجسم عندنا بنومة القيلولة وعند الإسبان بنومة السييستا. كنت أحمل الشمس المسؤولية عنها فحرارتها تفرض علينا النوم وجمالها يوحي لنا بالتشمس. بيد أن التقدم الطبي أضاف للموضوع عاملا صحيا. سكان المنطقة مبتلون تاريخيا بأمراض مزمنة، السل والملاريا والبلهارسيا والانكلستوما والثلاسيميا، وكلها تستنزف الهيموغلوبين من الدم، والهيموغلوبين (الحديد المتمثل بالكريات الحمراء) هو ما يعطي الطاقة للإنسان. الكثيرون من سكان البحر المتوسط مبتلون بعلة الثلاسيميا التي تتضمن انخفاض الهيموغلوبين. من المعتاد للأطباء في الغرب أن يشكوا في إصابة الشخص بالسرطان ويحيلوه للفحص الدقيق حالما يلاحظون انخفاضا في نسبة الهيموغلوبين ولكنهم يغضون النظر عندما يكون الشخص من منطقتنا فيتوقعون منه مثل هذا الانخفاض. وهو ما حصل لي شخصيا.

ربما نجد أن من أسرار نشاط الغربيين ارتفاع كمية الهيموغلوبين في جسمهم مقابل انخفاضها عندنا. هذا موضوع طبي يخرج بي عن موضوعي. وهنا أجد أن ظاهرة الكسل والنوم والخمول بيننا غدت من المواضيع التي تعرض لها أدباؤنا وظرفاؤنا ومفكرونا وكل العازمين على إصلاح أوضاعنا. من أول ما لقنونا إياه في المدارس قصيدة إبراهيم اليازجي:

انهضوا واستفيقوا أيها العرب

فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب

لم يحدث ذلك ولم نستفق. كان عليه أن يوجه نداءه للأطباء ليعالجوا هذه الأمراض التي تستنزف الهيموغلوبين في دمائنا. فاستمرت ظاهرة النوم والكسل وأصبح النوم مادة للمنكتين والساخرين. وعندما أقيمت المجالس النيابية استرسل أعضاؤها في النوم، كما نفعل نحن في المؤتمرات الفكرية، فرويت شتى التقليعات عن النواب النائمين. قالوا إن أحدهم أوصى زميله بأن يوقظه عندما يطرح أي موضوع على التصويت. ففعل وكان في كل مرة يشعر بأي حركة يثب من نومه ويرفع يده وينادي «موافق». مضت الساعات وانصرم النهار. انصرف النواب ولم يبق غير صاحبنا نائما في مقعده. جاء الكناس ووكزه ليوقظه فوثب من مكانه. رفع يده وهتف: «موافق! موافق!».

دأبت مجلة «الاثنين» في الأربعينات على نشر مسلسل كاريكاتيري بعنوان «مقهى النشاط» يسخر من حالة النوم والكسل. نادى أحد المستلقين على إحدى الكنبات، وقد مد رجله اليمنى على اليسرى، على نادل المقهى: «تعال يا واد! وحياة ابوك غيّر لي وضع رجلي، أحسن تعبت!» وكان ذلك في أيام الحرب العالمية الثانية والإنجليز والألمان يتصارعان على أبواب مصر في العلمين.

وسخر الشعراء والادباء من هذه الحالة فندد بها أسعد رستم:

لقد تجسم في شبابنا الكسل

فما سوى «تزكة ألمازا» لهم عمل

لم أجد أحدا يذكر لنا ما الذي كان يفعله أسعد رستم أثناء ذلك غير قرض القريض! ولكنني سأعود إليه في مقالتي المقبلة.