خلافات الآيديولوجيا وتأثيرها على علم الاقتصاد

TT

أنا الآن في سان دييغو لحضور الاجتماعات السنوية الخاصة بعلم الاقتصاد، وقد استهللت هذا الصباح بمناقشة ورقة بحثية من إعداد روجر جوردون وجوردون دال بشأن مسألة الاتفاق في مقابل الخلاف بين خبراء الاقتصاد (وعلى حد علمي لم تتوافر نسخة منشورة من هذه الورقة البحثية بعد). ومن المثير للاهتمام أن ورقة جوردون ودال البحثية هي ورقة تجريبية وكمية، وقد استمدا البيانات الواردة بها من هيئة الخبراء الاقتصاديين التي شكلتها «كلية بوث للأعمال» في «جامعة شيكاغو». وفي كل أسبوع منذ خريف عام 2011، كان الحضور يسألون أعضاء الهيئة عما إذا كانوا يتفقون أو يختلفون مع إصدار عينة تصريح رسمي عن الشؤون الاقتصادية، وهذه الاستجابات تعطي مقياسا كميا للإجماع أو عدم الإجماع على الأفكار الاقتصادية، كما يمكن استخدامها أيضا في طرح أسئلة مثل ما إذا كانت الخلافات - عند ظهورها - تتمحور حول الانقسام بين المدرستين الليبرالية والمحافظة.

وتعتبر الصورة التي يستمدها جوردون ودال من هذه الأدلة صورة مخففة إلى حد بعيد، ففي معظم القضايا؛ خاصة تلك التي أجريت فيها كثير من الأبحاث، توجد حالة كبيرة من الإجماع، ولم يمكنهما العثور على أدلة على وجود انقسامات آيديولوجية تحرك بواعث الخلاف. وقد توصلا إلى أن علم الاقتصاد يبدو أشبه كثيرا بمجال طبيعي للبحث العلمي، قائلين إنه بقدر ما إن الأمر يبدو عكس ذلك، فإن هذا يعود فقط إلى أن خبراء الاقتصاد أحيانا ما يعملون من أجل رجال السياسة ويكونون ملزمين بإبداء الدعم والتأييد. وبطبيعة الحال، فإن هذه الصورة تبدو متعارضة مع ما سبق أن كتبته عن دولة الاقتصاد الكلي، فلماذا إذن يرويان قصة مختلفة كهذه؟ إن إحدى الإجابات المحتملة هي أنني كنت مخطئا تماما، ولكن هناك إجابة محتملة أخرى؛ وهي أن الاقتصاد الكلي، خاصة دراسة حالات الركود والسياسات المتبعة حيالها، هو مجال يتسم بالخصوصية، وأن استجابات الهيئة التابعة لـ«كلية بوث للأعمال» لا تقدم ببساطة معلومات كافية عما يحدث في تلك الزاوية من هذا المجال. ومن الجلي أنني أفضل الإجابة الثانية؛ بل إنني في الحقيقة واثق من أنني على صواب، ولكن في ظل روح هذه الورقة البحثية، فإنه ينبغي لي أن أبذل قصارى جهدي من أجل تبرير ذلك الاعتقاد كميا، من خلال تفسير يتسم بأقل قدر ممكن من الذاتية. لذا، فإليك في ما يلي محاولة لتحقيق ذلك.

إن السؤال الأول هو: ما مدى تمثيل خبراء الاقتصاد المتخصصين في نماذج الدورات التجارية داخل تلك الهيئة؟ هناك 42 خبيرا اقتصاديا في هذه الهيئة؛ 6 من كل مدرسة من المدارس الكبرى الـ7. وهناك طريقة بسيطة إن لم تكن بدائية للتعرف على أنواع الدورات التجارية، وهي الاستفسار عن عدد أعضاء الهيئة الذين يشغلون أيضا عضوية برنامج «التقلبات الاقتصادية والنمو الاقتصادي» الذي وضعه «المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية»، والجواب هو 11 عضوا، وبالتالي، فإننا لا نحصل هنا على عينة كبيرة تقريبا بقدر ما قد يوحي به الحجم الكلي للهيئة.

والسؤال التالي هو: كم عدد التصريحات التي طلب من الهيئة التعامل معها والتي تتركز على جوانب الجدل الجوهرية بين خبراء الاقتصاد الكلي؟ هنا لا يمكنني أن أتجنب إصدار بعض الأحكام الذاتية، فقد صدر عدد من التصريحات التي تركز على قضايا الاقتصاد الكلي، غير أن كثيرا من تلك التصريحات كان يقع بوضوح خارج نطاق الجدل بين خبراء الاقتصاد المتخصصين. فعلى سبيل المثال، بينما قد يكون هناك تأييد سياسي كبير لمعيار الذهب، فإنك لن تجد أي صدى لذلك التأييد حتى بين خبراء الاقتصاد الذين يكنون عداء شديدا للسياسة النقدية القائمة.

وفي الحقيقة، فإنه لا يوجد في تقديري سوى تصريحين يقعان داخل نطاق الجدل الجاد بين الأكاديميين؛ الأول كان بخصوص آثار التسهيل الكمي، بينما تناول الآخر، الذي سأركز اهتمامي عليه، آثار «قانون التعافي الاقتصادي»، وبالتالي مسألة التحفيز المالي (والواقع أن هذا تصريحا مكونا من جزأين؛ إذ يتضمن التصريح الأول مدى فعالية ذلك القانون، والثاني الأسباب التي تجعله مرغوبا فيه).

ماذا كان لدى الهيئة كي تقوله عن التحفيز المالي؟ لقد كانت الإجابات توحي فعليا بوجود قدر كبير من الإجماع؛ إذ اتفق 80 في المائة من تشكيل الهيئة على أن «قانون التعافي» عزز كثيرا من معدلات الإنتاج والتوظيف، ولم يختلف معهم سوى 5 في المائة (وبالمناسبة، كان صاحبا الرأيين المخالفين هما كارولين هوكسباي وإيدي ليزيير). وقد كانت هناك حالة أكبر بكثير من عدم اليقين بشأن ما إذا كان ذلك القانون يمثل فكرة جيدة، ولكن بين أولئك الذين كانوا قد كونوا وجهة نظر بالفعل، تجاوز عدد الموافقين عدد المعترضين بنسبة 3 إلى 1 تقريبا. إذن، هل تعتبر الانطباعات التي تقول بوجود انقسام آيديولوجي حاد بشأن السياسة المالية مجرد انطباعات خاطئة؟ أو هل فشلت الهيئة في التعبير عن مظاهر واقع الاقتصاد الكلي الحديث؟

فلنعد مرة أخرى إلى برنامج «التقلبات الاقتصادية والنمو الاقتصادي» التابع لـ«المكتب القومي للأبحاث الاقتصادية»، فينبغي من الناحية المثالية أن نستعرض جميع الأعضاء وأن نقيم وجهات نظرهم بشأن التحفيز المالي، إلا أنني في الوقت الراهن سوف أتبع منهجا أسرع بالتركيز فقط على أبرز الأعضاء في هذا البرنامج، باستخدام مقياس موضوعي لدرجة البروز وهو الحصول على جائزة نوبل. وقد اتضح أن هناك 5 فائزين بجائزة نوبل بين أعضاء البرنامج، و3 منهم أبدوا وجهات نظر قوية بخصوص آثار التحفيز المالي. ويأتي التصريح الأكثر اعتدالا بين تلك التصريحات من توماس سارجينت، الذي اتهم الرئيس أوباما بالتلميح على خلاف الحقيقة - من وجهة نظره - إلى أن هناك إجماعا بين خبراء الاقتصاد من ذلك النوع الذي يبدو أن البيانات التي اعتمد عليها خبراء الهيئة التابعة لـ«كلية بوث للأعمال» توحي به:

ففي أوائل عام 2009، أذكر أن الرئيس أوباما قال إنه رغم وجود خلاف هائل بين خبراء الاقتصاد حول السياسة النقدية والاستجابات التنظيمية الملائمة تجاه الأزمة المالية، فإنه قد كان هناك اتفاق واسع النطاق لصالح تقديم حزمة تحفيز مالي كبيرة بين الغالبية العظمى من خبراء الاقتصاد المطلعين. ومن المؤكد أن مستشاريه كانوا على علم بأن هذا لا يعد توصيفا دقيقا لآراء المتخصصين في هذا المجال بالكامل. وقد جاء تصريح أقوى من إدوارد بريسكوت، الذي رفض ببساطة تلك الفكرة برمتها: «إن التحفيز المالي ليس جزءا من لغة علم الاقتصاد». وأخيرا، فقد شن روبرت لوكاس هجوما شخصيا على كريستينا رومر بسبب تأييدها للتحفيز الاقتصادي، حيث أطلق عليه «علم الاقتصاد الرديء»، كما شكك في أمانتها الفكرية، مؤكدا أن تحليلها هو عبارة عن تبرير هزيل للسياسات التي تم اتخاذ قرارات بشأنها لأسباب أخرى كما تعلمون.

إن هذا لا يبدو كما لو كان حالة الإجماع التي يفترض أن تكون هيئة «كلية بوث للأعمال» قد أظهرتها. ثم أتريد حقا أن تقول إن الانقسام هنا ليست له أي علاقة بالآيديولوجية؟ أتظن ذلك حقا؟

حسنا، إليك فهمي للنتائج التي توصل إليها جوردون ودال: إن ما أظهراه هو أن معظم ما يفعله خبراء الاقتصاد هو في الحقيقة موضوعي تماما وغير آيديولوجي، فالاقتصاد الكلي القائم على الدورات التجارية - رغم أنه ليس كذلك على الإطلاق - هو جزء صغير بما يكفي من المجال الاقتصادي إلى درجة أن بياناتهم لا تلحظه. وللأسف، ففي حين أن الاقتصاد الكلي القائم على الدورات التجارية قد لا يكون جزءا كبيرا مما يفعله خبراء الاقتصاد، فإنه مجال له أهمية كبيرة؛ خاصة في ظل استمرار العالم في مواجهة أسوأ أزمة اقتصادية يمر بها منذ 3 أجيال.

ثم إن الاقتصاد الكلي القائم على الدورات التجارية في رأيي هو أيضا أهم بالنسبة لمجال علم الاقتصاد بشكل عام مما يدركه معظم خبراء الاقتصاد أنفسهم. وقد وقعت منذ وقت طويل في قياس ما زال يبدو مناسبا بالنسبة لي: إن مجال الدورات التجارية بالنسبة لعلم الاقتصاد بشكل عام مثل القنابل النووية (وبدرجة ما - كي أكون منصفا - الطاقة النووية) بالنسبة لفيزياء الطاقة العالية. وأنا واثق من أن قلة قليلة جدا من علماء الفيزياء الذين يعملون على استكشاف خفايا وأسرار الكون يشغلون أنفسهم على الإطلاق بالتفكير في كيفية جعل الأشياء تدخل في طفرة، غير أن السبب في أن هذا المجال ما زال يتلقى تمويلا حكوميا هو بالتحديد في جزء كبير منه أن الفيزيائيين ذات يوم عثروا بالفعل على طريقة لجعل الأشياء تدخل في طفرة، وأنت لا تعرف أبدا ما قد يخرجوا به في المستقبل.

وبالمثل، ففي حين أن الغالبية العظمى من خبراء الاقتصاد ربما يعملون على استكشاف قضايا بعيدة تماما عن السؤال الخاص بما ينبغي القيام به في حالة حدوث كساد اقتصادي، فإن جزءا مهما من هيبة مجالنا والدعم الذي يتلقاه يأتي من تصور أن خبراء الاقتصاد لديهم بالفعل نصائح نافعة كي يقدموها في أوقات الكساد، وأنهم قد يخرجون بنصائح أكثر نفعا في المستقبل.

وإذا ما انتشر بدلا من ذلك تصور بأن الاقتصاد الكلي القائم على الدورات التجارية هو مجرد تظاهر آيديولوجي، وأن خبراء الاقتصاد المؤثرين يختارون مبادئهم بحيث تتناسب مع أهوائهم السياسية، وأن هذا المجال لم يفشل في تحقيق تقدم فحسب، بل إنه أحيانا ما كان يتراجع فعليا، فإن هذا سيكون أمرا سيئا بالنسبة لهذه المهنة وكذلك بالنسبة للعالم.

* خدمة «نيويورك تايمز»