عندما يضطرب العراق يتوجس الخليجيون!

TT

هذا الأسبوع كان الخطاب الأخطر الذي صدر من دمشق على لسان بشار الأسد، ولأنه مكرر فهو خطير، وقد تناولته الأقلام بالتحليل الموسع، إلا أن الحدث الأخطر يتشكل في العراق ومن عاصمته بغداد. الخطاب والحدث يتشابهان (إن صح التعبير) في التركيبة الجينية لخارطة التعامل مع الآخر (دي إن إيه)، وهي نبذ الآخر عن طريق تهميشه، ثم الادعاء أن ما يفعله هو طائفي يغذيه التحريض من الخارج؛ فلا بأس (والأمر ذاك) من تقديم القرابين البشرية دفاعا عن السلطة المطلقة.

إن كانت قصة سوريا أصبح لها من الزمن ما يقارب العامين، فإن قصة العراق هي التي تبدأ من جديد، وكلاهما له نفس العنوان؛ الاستئثار بالسلطة، ونبذ الآخر وحرمانه من حقوق المواطنة، وإن حاول رفع صوته، فإنه متهم بكل أشكال الاتهامات.

يشاع عن المتطرفين في الحكم السني سابقا في العراق أن شعارهم كان «لكم اللطم ولنا الحكم»، في تشبيه فجّ عن تحكم السنة بالسلطة في العراق، ثم تحول العراق من جديد إلى حكم للتطرف الشيعي على أساس انتقال اللطم حيث ترك لأهل السنة، أما مفهوم الشراكة في الوطن فليس له محل في القاموس.

لم يكن من الطبيعي أن يتم احتكار الحكم وسلطاته في طائفة، مهما بلغت من العدد، وتهميش الآخرين، بل واضطهادهم. الخطأ يتكرر من جديد بشكل أوسع وأكثر بروزا، دون حتى تستر أو تبرير. العمى الذي يصيب أهل السلطة هو عمى ألوان، أصاب السلطة في البلدين؛ سوريا والعراق في السابق واللاحق، وكان له بعض التبرير، حيث لم تكن وسائل الاتصال قد تطورت إلى هذا الحد الشبكي الذي يجعل من حشد الجمهور أكثر سرعة وأعمق تأثيرا.

العمى أذى يصيب أهل الحكم في البلدين؛ عمى مركب، أكثر ما يؤثر فيه أنه يقلد سلوكيات السابق في زمن مختلف.

هناك مراهنات على تفكيك العراق، وقد وضعت لبناتها في الدستور العراقي الذي تم إنجازه تحت الاحتلال؛ فقد وُضِع، وفي التصور مجتمع آخر غير المجتمع العراقي، وثقافة أخرى غير ثقافة العراقيين السياسية، فأنتج المحاصصة الفجة التي لا تستطيع أن تأخذ العراق إلى مكان أفضل يطمح إليه العراقيون.

سنة وشيعة وأكراد، هذا ما يعمل معظم السياسيين العراقيين في ظله اليوم؛ سهولة في الحشد واستثمار أسوأ المشاعر السلبية، وليس المواطنة العراقية، من يقول بالمواطنة العراقية إما هُمّش أو أزيل من الطريق، أو اضطر لأن يلجأ إلى المكونات الأولى الطائفية والعرقية، ليبقى رأسه طافيا على سطح العمل السياسي العراقي الحالي. وكان لا بد، والأمر كذاك، من الصدام الذي يتشكل اليوم في معظم مدن العراق، وكل بما لدى حزبه الطائفي أو المناطقي ينتصر ويؤلب الأتباع في التحضير لحروب أهلية باهظة الثمن.

الخطر الذي يمكن أن يقدم من العراق أكثر بكثير من الخطر الذي يحذر منه في الشام؛ فهناك، أي في الشام، بسبب تعدد الطوائف وكثرتها، تجبر على التعايش والمشاركة، طال الزمن أو قصر. في العراق بسبب الثنائية (أو قل التثليث) إن حسبت الأكراد، والانقسام الجغرافي شبه المنعزل بين ذلك الثالوث، فإن احتمال الانقسام يصبح أكثر سهولة وأكثر إغراء.

لعل بعض التجارب تفيدنا هنا من أجل إلقاء ضوء كاشف على الخيارات. فالهند على الرغم من تعدديتها أو تفتتها الاجتماعي واللغوي والعرقي وظفت تلك التعددية واستطاعت أن تلتئم (كدولة) تحت شعار وطني جامع وحديث، قلل بالتدريج الانقسام الاجتماعي الفئوي والديني، في الوقت الذي تنقسم فيه باكستان إلى قسمين كبيرين، هما البنجاب والسند، جعل من الصراع الثنائي هناك يطول ويتفرع ويستهلك من طاقة الباكستانيين حتى اليوم الكثير من الجهد والأرواح، ولا يزال يفعل. أما المثال الآخر فهو من جنوب أفريقيا، التي هيئ لها رجال من أمثال نيلسون مانديلا أصحاب عقل تاريخي، فقررت بوعي في أولى خطوات الاستقلال والتحرر من قبضة البيض، أن تشرك، ليس الأقلية البيضاء فقط، بل الأقليات الأخرى العرقية (وهم كتل بشرية كبيرة) وتدمجهم في العملية السياسية؛ بإعطائهم ليس ضمانات شفوية بل عملية إلى درجة أن كل من له أكثر من 5 مقاعد في البرلمان يُمثل بوزير في الحكومة، لبث الطمأنينة في محاولة للمّ شمل، وقد نجحت. تلك ابتكارات لرجال كان نصب أعينهم الوطن، وليس المصلحة الضيقة.

في حال خلوّ سوريا وأيضا العراق من هكذا تفكير يقوده رجال تاريخيون، فإن حالة الغضب التي يسببها التهميش تتزايد حتى تصبح ليس خطرا على سلامة الوطن، ولكن على بقائه موحدا.

وسائل الاتصال الحديثة عملت على ترابط المحبطين، هذا التواصل هو الذي أسس لعقل جماعي، في بعض بلادنا ظهرت له قيادات، وفي بعضها لم يكن الوقت ليسمح بظهور قيادات تقود الحراك الشعبي الكبير إيجابيا. لقد عمدت القيادات الجديدة التي أنتجت بعد الاحتلال في العراق على الارتكان إلى الطائفية؛ فقدمت حزمة من التخويف واستثمار الفوضى والإرباك وتأجيج الطائفية في إطالة بقائها في الحكم، إلا أن كل تلك الوسائل بطبيعتها آنية ومفعولها مؤقت، سرعان ما تتلاشى عندما يفتقد الجمهور العام فترة طويلة الخدمات التي يرغب بتحقيقها، فتصبح تلك الحزمة السلبية ليست ذات تأثير يُذكر في لجم الجمهور عن المطالبة بما يعتقد أنها حقوقه.

الإشكالية في العراق التي قلت إنها أخطر ما يحدث حولنا هي إضافة صراع آخر محبط يأخذ الشكل السني الشيعي العربي، دون أن ننسى الفائدة المحققة في ذلك للسياسة الإيرانية، أنا أشدد هنا على الفعل السياسي، وليس التوجه المذهبي، إلا أن خسارة العراقيين أولا والخليجيين ثانيا من هذا الصراع (إن توسع) خسارة فادحة؛ فأولا يمكن أن يخلق على المدى المتوسط كيانات عراقية متنافرة، وقد تكون متحاربة فيما بينها، يستدعي كل فرع منها مناصرين من الخارج، فيقع العراق في بحيرة صراع طويل ومنهك، وثانيا يمكن أن يفيض هذا الصراع ليخلق صراعات جانبية في دول خليجية مجاورة يتفكك معها النسيج الاجتماعي تحت ضربات الاستقطاب. من هنا، فإن الحديث عن العراق اليوم يسبق الحديث عن سوريا، في الأخير، تبين شكل النهاية وفي الأول ما هي إلا خطوات البداية للطريق المحفوف بالتهلكة.

آخر الكلام:

لقد فشل جيل عربي ادعى الثورية في بناء دولة حديثة، وسقط في أتون الطوائف ومنحدرات القمع، فأنتج في النهاية درجة إحباط هائلة فجرت حروبا أهلية تهدد حتى كيان الدولة ذاتها.