الحائرون

TT

أحد الأسئلة التي لا بد أن يكون كثيرون قد فكروا فيها، الكيفية التي استطاع بها النظام السوري الصمود تقريبا لمدة عامين وسط هذا المد من المعارضة السلمية التي تحولت إلى مسلحة وعدم قدرته على السيطرة فعليا على ما يتجاوز نصف البلاد تقريبا، رغم ممارسة أقصى درجات العنف ضد أهالي مدن وقرى سوريا.

الإجابة أشار إليها تقرير أخير لـ«نيويورك تايمز» وتتمثل في المترددين أو بمعنى أحرى في «الحائرين». الواضح أنهم لا يزالون يشكلون كتلة محترمة بين السكان، قد يكونون يعارضون سياسات النظام لكنهم أيضا يخشون المستقبل، أو يعارضون سياسات القمع والعنف لكن المعارضة لم تستطع أن تقنعهم بعد، وهؤلاء بينهم مهنيون وضباط وموظفو أجهزة الدولة الذين يديرون العجلة التي تؤمن للنظام استمراريته وفي نفس الوقت يجلسون على السور، ولم يتخذوا موقفا يستطيع أن يرجح الكفة لصالح جانب معين.

الحائرون، ظاهرة طبيعية في المجتمعات، فأغلب الناس غير مسيسين وهمّهم الأول هو المعيشة اليومية وأسرهم، ويحاولون دائما التكيف حتى مع أقسى الظروف ما لم يصل الغضب إلى نقطة الغليان التي يصبح بعدها إمكانية بقاء النظام مستحيلة.

وقد كان هذا هو المسار المتوقع للأحداث لو ظلت الانتفاضة السورية سلمية الطابع، فهي في شهورها الأولى اكتسبت زخما وتعاطفا شعبيا مع مطالب تتعلق بالحريات والعدالة الاجتماعية، وكانت استراتيجية النظام كما أوضح المسار الذي أخذته الأزمة هناك هو الرد العسكري والأمني باستخدام أقسى الأساليب بحيث لا يكون أمام المعارضة أو المحتجين إلا اللجوء إلى السلاح للرد على هذا العنف المفرط، وهو ما حدث بالفعل.

سلاح بمواجهة سلاح.. ودم مقابل دم.. هكذا أصبح المشهد في سوريا، وهو كافٍ لإثارة الرعب بين كثيرين، خصوصا في المدن الكبيرة التي من المؤكد أن القطاع الأكبر منها كان يطمح في إصلاحات وحريات ومستويات معيشية أفضل، ويدرك أن هذا النظام لا يسمح بها، أو أن فرص حصوله على ذلك غير ممكنة في ظل استمرار إدارة شؤون الحكم بنفس أساليب العقود الماضية منذ سيطرة البعث على السلطة، ولكنه أيضا ليس مستعدا للمخاطرة، ومستعد لقبول درجة من درجات الكبت والقمع مقابل أن تسير حياته اليومية كما هي.

هذا طبيعي، فالناس العاديون ليسوا «ثوارا أو مغامرين»، وإذا حدث ذلك سيتحول المجتمع إلى حالة فوضوية، والنشطاء عادة ما يكونون أقلية أو نخبة في المجتمع، نجاحهم أو فشلهم مرتبط بقدرتهم على إقناع الجمهور العريض في السير وراءهم.

وهذه هي معضلة المعارضة في سوريا التي تحتاج إلى كسب هذا القطاع الحائر الخائف الجالس فوق السور يراقب دون أن يتخذ موقفا، وله الحق في هواجسه من المعارضة المسلحة، وهو ما يحتاج من هذه المعارضة بكل أشكالها وتنظيماتها إلى أن تضع في استراتيجية عملها على الأرض مخاوف هؤلاء وتعمل على تبديدها سواء كان ذلك مناطقيا أو طائفيا أو بالتأكيد على الحفاظ على المؤسسات ومنع أي أعمال انتقامية.