مرة بشار الأسد..

TT

اتفق معظم العقلاء الذين تابعوا خطاب بشار الأسد الأخير أنه كان خطابا موجها بشكل أساسي ومركز للعالم الغربي وليس للسوريين ولا للعالم العربي. ركز بشار الأسد وكرر مرارا تحذيره من الجماعات «التكفيرية الإرهابية» وجعل هذه الفكرة هي ركيزة خطابه وقال: إن هذه الجماعات كلها أذناب لتنظيم القاعدة الإرهابي (وهو اسم كفيل بإثارة الاهتمام الكافي في أذهان المتابعين في العالم الغربي)، ولم يتجرأ بشار الأسد أن يذكر صراحة اسم تنظيم جبهة النصرة التي تردد اسمها في الإعلام وعلى ألسنة المسؤولين الأميركيين وتم إدراج اسم هذه المجموعة على قائمة المنظمات الإرهابية رغم أن دور جبهة النصرة في الثورة والاقتتال بات معروفا ولكنه فضل استخدام اسم تنظيم القاعدة لأن «تسويق» خطر الإرهاب التكفيري يسهل القيام به في حالة استخدام هذا الاسم.

بشار الأسد يحاول في ورقته الأخيرة زيادة ودغدغة مشاعر الغرب وأميركا من فزاعة التكفيريين، والخطاب أعد جيدا هذه المرة، وتمت الموافقة والإشراف عليه سلفا من قبل طهران وموسكو، وكلا الفريقين يستخدم فزاعة «الجماعات التكفيرية» في خطاباتهم السياسية المختلفة وذلك بحسب أسبابهم الخاصة بهم؛ فإيران دوما تسعى للعب بهذا اللفظ في طرح طائفي ويظهر ذلك جليا عبر أنصارها في العراق ولبنان مثلا، أما روسيا فهي تستشهد بتجاربها مع هذه الجماعات في أفغانستان والشيشان وداغستان ومعاناتها معهم. ولكن ما يتغاضى عن ذكره هؤلاء جميعا أن بشار الأسد ومن قبله أبوه قاما بإرهاب دولة مقنن في حق الشعب السوري عبر أكثر من أربعين سنة راح ضحيته عشرات الآلاف من الأبرياء بلا رحمة ولا هوادة.

واليوم ها هو المشهد يتكرر، ويصر الروس والإيرانيون على دعم النظام المجرم حتى الرمق الأخير، والمشهد الإغاثي الإنساني بدأ يأخذ أبعادا مأساوية وباتت مشاهد اللاجئين وهم يعانون على حدود تركيا والأردن والعراق ولبنان تدمي القلوب وسط حالة من الخذلان العربي والعالمي تثير الدهشة والاستغراب والاندهاش والاشمئزاز في آن واحد.

بشار الأسد تنازل بالتدريج إبان حكمه عن السيادة السورية لصالح إيران ورضي أن يخرج ملك العرب والعروبة الذي كان يدور فيه والده بشكل صوري، ولكن الابن قرر أن يتبنى الخط الطائفي الواضح والصريح واختار الطائفة على حساب العروبة والجيرة والمصالح وفي سبيل ذلك فلتحرق الدار بمن فيها، ولم يجد الروس صعوبة في مساندة الثنائي الإيراني - السوري لأن بشار الأسد وأحمدي نجاد كانا بحاجة بعضهما لبعض والروس أدركوا تماما أن هؤلاء الاثنين «معا» وفي هذا الظرف هما الحلف المناسب للظرف المناسب حتى يكونا ورقة ضغط للروس في مواجهة الغرب يساومهم فيها على حساب صواريخ الأطلسي المزمع إقامتها في دول أوروبا الشرقية بمواجهة الحدود الروسية، وهو الأمر الذي اعتبرته روسيا تحديا وقحا وفجا من الغرب ومن فوق أراضيها لدول كانت بالأمس جزءا أساسيا من المعسكر الشرقي إبان حقبة الاتحاد السوفياتي.

الثورة السورية فضحت وعرت وكشفت زيف المواقف والمبادئ والعقائد التي كانت تتبناها بعض الفرق والأطراف والدول وباتت مواقفهم المؤيدة لبشار الأسد ونظامه المجرم غير قابلة لأن تبرر ولا لأن يدافع عنها أبدا. روسيا مدت بشار الأسد وكذلك فعلت إيران مؤخرا بأرتال من العتاد والسلاح والذخيرة لقواته المجرمة بينما يعاني الثوار من نقص في العتاد والسلاح ومن العون الإغاثي. قرار الخلاص من بشار الأسد لم يحسم بعد في موسكو وتل أبيب، إسرائيل لديها هواجس كبيرة جدا من مرحلة ما بعد الأسد التي عاشت فيها في أمان لم تحلم به من قبل وبات الهدوء على هضبة الجولان ينافس الهدوء الموجود على جزر هاواي من دون أي مبالغة.

المشهد السوري يزداد وهجا وإيلاما، ومع ازدياد حالة القنوط واليأس والدماء والقتل ستكون هناك نقطة التحول القادمة. من الصعب جدا التفاؤل مع هذه المشاهد ولكن لا يوجد أي خيار آخر سوى التفاؤل، فالطاغية قد ألقى خطابه الوداعي، ولن يتبقى من بشار الأسد سوى نكات تروى عنه وذكريات أليمة عن حقبته.