دراسات المستقبل.. ومستقبل الأوطان العربية

TT

لم تعد دراسات المستقبل رجما بالغيب أو رفاهية، بل أصبحت ضرورة ملحة تفرضها المتغيرات والأوضاع والمستجدات المتزايدة والمتسارعة على الساحة العالمية والإقليمية والمحلية، التي تحتم على المجتمعات والأفراد التعامل معها والاستفادة من الفرص المتاحة منها أو تقليل وتجنب آثارها السلبية.

وتهدف دراسات المستقبل إلى فهم واستكشاف وإزالة الغموض حول المستقبل وجعل إمكاناته واتجاهاته أكثر وضوحا ومعرفة لنا، من خلال الكثير من الأساليب والتقنيات العلمية، التي تسهم في تحديد الفرص المتاحة وتجنب المخاطر المحتملة، من خلال اتخاذ أهداف وقرارات وسياسات أفضل والبحث عن وسائل مبتكرة لتحقيقها.

وتولي الدول المتقدمة اهتماما بالغا بدراسات المستقبل، التي أصبحت علما رائدا لديهم، فهناك جمعيات ومراكز ومعاهد وجامعات ودوريات ودرجات علمية ووظائف مختصة بدراسات المستقبل، كما أن لديها تجارب ونماذج مستقبلية رائدة وناجحة وراسخة ومتطورة.

الإعداد والاستعداد لمواجهة تحديات ومتغيرات المستقبل والتخطيط لها، أصبح الآن علما وفنا وصناعة عالمية متطورة تحتاج إلى موارد بشرية ومادية ووقت وجهد وتفكير عميق وأفكار جادة، بحيث تكون السياسات والقرارات الصادرة، أكثر شفافية ومرونة واستجابة لتوجهات الرأي العام ومتماشية مع المتغيرات والتحديات الحادثة على الساحتين الداخلية والخارجية.

التفكير خارج الصندوق، أو التفكير الإبداعي أو على غير المعتاد، والنظر إلى المستقبل من خلال فروض ورؤى واضحة وموضوعية جديدة، وأهمية تفعيل المشاركة الشعبية، تعد أمورا ضرورية قبل اتخاذ قرارات وسياسات مصيرية، قد تؤدي إلى إثارة الجدل والخلافات والتناحر والتباغض. ولعل السؤال المهم المطروح هو: هل لدينا بالفعل في عالمنا العربي اهتمام بدراسات المستقبل والتفكير بجدية في المستقبل وما قد يؤول إليه في كل مجالات المجتمع من سياسية واقتصادية واجتماعية وصحية وتعليمية وثقافية وغيرها، أم أن التفكير في المستقبل لا يعنينا لأنه من الغيبيات والأمور والقضايا الغامضة التي لا تستحق المناقشة وأن نكلف أنفسنا عناء الجهد والوقت والمال والبحث فيها؟

قد يقول قائل: إن المستقبل غامض وهناك توجس وخوف منه، ويكفينا ما لدينا من هموم وأزمات ومشكلات في الحاضر، ولكن هذا الحاضر هو ما كان المستقبل بالأمس، أي إن هموم الحاضر والمستقبل باتت هموما مزدوجة، وهموم المستقبل أصبحت أكثر أهمية وتمثل تحديا كبيرا للوطن، ذلك لأن التغيرات والأزمات والهموم المستقبلية المفاجئة التي لا يمكن إدراكها وتداركها والاستعداد والتخطيط الجيد لها، سوف يصعب التعامل معها، وبالتالي تهدد استقرار وأمن الوطن والمواطن، فالتفكير فيما يمكن أن تؤول إليه أوضاع وقضايا الوطن ورسم خريطة مستقبلية واضحة المعالم لإدارة التغييرات المحتملة، أصبح مهمة وضرورة عاجلة، لتجنب الخلاف والصدام، وتحقيق الأمن والأمان.

المجتمعات والدول التي تهتم بدراسات المستقبل، تفترض عددا من السيناريوهات المستقبلية التي تمثل تصورات فكرية وذهنية جادة ومحتملة الحدوث لظاهرة أو قضية ما، وفق شروط ومؤشرات معينة، وتنطلق من تساؤل: «ماذا يحدث لو..؟»، وتساعد هذه السيناريوهات على فهم اتجاهات وغموض المستقبل، وتحديد الفرص والتحذير من المخاطر المتخيلة والمحتملة ومحاولة تجنبها أو التقليل من آثارها السلبية. فدراسات المستقبل أصبحت أداة قوية لإدارة ديناميكية المؤسسات والتغيير وتطوير القدرة على التكيف الشخصي والاجتماعي والمساهمة في استقرار وأمن ورفاهية الوطن والمواطن، فالتفكير الجاد المبتكر وغير المعتاد لما قد تؤول إليه الأحداث والمتغيرات، أصبح ضرورة لإدارة الاضطرابات والتغيرات المحتملة في الحاضر والمستقبل، ويتم ذلك من خلال مجموعة من المفاهيم والأساليب والأدوات المستقبلية المصممة لمساعدة الأفراد والمجتمعات على فهم أفضل لسياقات ومسارات العمل.

لن تستطيع أمتنا أن تنهض من أزماتها وكبواتها، إلا بالاعتراف الواضح والصريح بأخطائها، والبحث عن صيغ ورؤى جديدة واقعية وجادة لمواجهة أزمات الحاضر وتحديات المستقبل، والابتعاد عن المنظور والرؤية الضيقة في النظر لقضاياها وأزماتها، وتجنب المصالح الفردية أو الشخصية، وذلك من أجل المصالح الجماعية العامة للوطن والمواطنين ومستقبل الأجيال المقبلة، وأن ندرك جيدا أن ما هو حاضر اليوم كان مستقبلا بالأمس، يجب الإعداد والاستعداد له، من خلال تطوير استراتيجيات وإجراءات فعالة تضمن الاستقرار والأمن والنهوض بالوطن في كل مجالاته.

ولا يكفي فقط أن يكون لدينا مراكز ومؤسسات لدراسات المستقبل، وإنما المهم تفعيل أدوارها ودعمها باستمرار بالموارد المادية والبشرية اللازمة والاستفادة الحقيقية من الخطط والأفكار والرؤى المستقبلية الجادة الصادرة عنها، بحيث يستطيع المواطن ومؤسسات الوطن المختلفة التعرف والاطلاع عن قرب على ما سيكون عليه الحال في المستقبل القريب أو البعيد، والحصول على خدمات استشارية مستقبلية مجانية بخصوص المواضيع والقضايا المستقبلية التي تهمه وتهم وطنه في مختلف المجالات، ويمكن لهذه المراكز الاستفادة من الاقتراحات والتوصيات البناءة التي يقدمها المواطنون.

لقد أصبح التفكير والاستعداد للمستقبل ضرورة حتمية عاجلة تفرضها المتغيرات والأحداث المحيطة بنا سواء الداخلية أو الخارجية، التي تؤكد على حقيقة أن ما كان يصلح بالأمس، ليس بالضرورة أن يكون مناسبا اليوم، فالتغير والتبدل سنة من سنن الله في الكون.

دراسات وتوجهات المستقبل، أحد المداخل والتوجهات المهمة للنهوض بالأوطان واستقرارها ورسم وصناعة مستقبلها بوضوح وشفافية وفي إطار المصلحة العليا للمجتمع، فمن خلال الخطط المستقبلية الجادة نستطيع بوضوح الاطلاع على ما قد يحدث للأفراد والمجتمعات في المستقبل القريب أو البعيد في كل المجالات، ومن ثم الاستعداد برؤى وأفكار منهجية وصريحة حول بدائل المستقبل المفيدة في اتخاذ القرارات ورسم السياسات في مختلف المجالات، مع الابتعاد عن كل ما يؤدي إلى عوامل وأسباب الفرقة والانقسام والخلل في حياة وأحوال الأوطان والمواطنين.

المستقبل الأفضل للأوطان العربية، أصبح مرهونا بدراسات المستقبل التي أصبحت على نحو متزايد إطارا مرجعيا للتنمية في مختلف المجالات، فمن خلالها يمكن إدارة التغيير وتوقع استراتيجية مناسبة للنتائج المرجوة، كما أن مستقبل الوطن مرهون ببناء الإنسان المتكامل الشخصية، والعمل الجاد المخلص في جميع المجالات، وبمشاركة وتحرك جميع الأفراد، كل حسب مكانته وظروفه وطاقته لمواجهة الأزمات والمخاطر والتحديات الداخلية والخارجية المحدقة بتقرير مصيره ومستقبله.