من ضيق التصنيفات الصغيرة.. إلى سعة الاسم الجامع «المسلمين»

TT

من أعاجيب المسلمين أن الإسلام يهتف بهم أبدا أن ارتقوا ولا تنحطوا، وأن توسعوا ولا تختنقوا في المضايق، فإذا هم يرسفون في الحفر، ويؤثرون الشرب من السواقي لا من الأنهار!!

مثلا: من عزائم منهج الإسلام ومن مقاصده العظمى «التوسعة».. و«التفتح».. و«التفسح» في كل شأن، وإنكار التضييق والتحجير في كل أمر كذلك.. فمنهج الإسلام كله مصبوغ بهذه الصبغة التي تطبع أتباعه - العليمين به - بطابع التوسعة والتفسح، وبرفض التضييق والتعسير في الوقت نفسه.. وبديهي أننا نكتفي بالأمثال - نظرا لضيق المساحة - في استبانة عزائم المنهج.. ومن ذلك أن الله «رب العالمين» لا رب قبيلة أو شعب من الناس، فهو «رب الناس ملك الناس إله الناس»، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن رسالة رسول الإسلام «رحمة للعالمين»، وأن الناس جميعا «أسرة واسعة الدائرة»، وليسوا قبيلة متحجرة في جحر عنصري، وأن الأرض كلها جعلت مسجدا وطهورا للمصلين، وأن عطاء الله مبذول يسع الناس أجمعين، مؤمنهم وكافرهم: «كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا». وأن المسلمين - بصفتهم مسلمين - أمة واحدة واسعة، جد واسعة، لا تضيقها أو تحجرها أسماء وأوصاف لا ترقى إلى صفة «المسلم» في التوسعة والتفسح ورحابة المشروعية واندياح الأفق. بيد أن كثيرا من هذه الأمة - في القديم والحديث - قد عدلوا عن السعة التي تمثلها صفة المسلم إلى أوصاف ضيقة هي - بالتأكيد - دون هذه السعة.. نعم. ثمة كثير من المسلمين آثر محدودية السواقي على سعة الأنهار والبحار!!.. نعم. فقد تشققت الأمة إلى معتزلة وخوارج وشيعة وصوفية. وهذا الوصف الأخير تشقق إلى ألوف الطرق حيث انقسمت الطريقة الواحدة ذاتها إلى عشرات الطرق، على حين أن الطرق كافة تنتمي إلى أهل السنة والجماعة!!

وفي العصر الحديث ظهرت أوصاف وتسميات أخرى مثل: العلماني.. والليبرالي، واليساري، واليميني، إلخ.

ثم جاء مصطلح «الإسلاميين» ليصف فئة من الأمة بهذه الصفة من دون المسلمين.. والمصطلح باهر لأول وهلة، لكنه دون وصف «مسلم» في المشروعية والحلاوة والسعة والوحدة الرحيبة الجامعة.

ونبسط القول في هذا المصطلح لأسباب عديدة راهنة يلحظها كل ذي فطنة..

فمن هم «الإسلاميون»؟

هل هم الممتازون على سائر المسلمين بنوع من العبادات التنفلية (صيام الاثنين والخميس مثلا)؟.. هذه ليست ميزة لهم وحدهم، فهناك من عموم المسلمين من يفعل ذلك لأن طريق التقرب إلى الله بكثرة النوافل ليس مشروطا بوجود لائحة تربوية في حزب ما.

أو هل يمتازون بمعارف «اجتهادية» في الإسلام؟ لكن المعروف أن باب الاجتهاد مفتوح لكل من استوفى شروطه العلمية، وآلياته الفنية، ومعاييره الخلقية.

أو هل يمتازون بـ«الوعي السياسي»؟.. هذه ليست ميزة خاصة أيضا.. فالوعي السياسي نوعان: نوع التبصر بقضايا العصر والعالم.. وهذه ثقافة ينبغي أن يتحلى بها كل مسلم يعيش عصره وعالمه بجدارة. والنوع الثاني هو العلم السياسي المحترف.. وهذا ميدان مفتوح لك حزب، وهم والأحزاب الأخرى سواء في هذا الحقل.

وها هنا، يلتفت السياق إلى المضامين التالية:

1) هل الأوصاف والتسميات «الدينية» المتعبّد بها: اجتهادية أم توقيفية؟

إن المسلمين - بصفتهم مسلمين - ليس لهم أن يقدموا بين يدي الله ورسوله في شأن هذه التسميات.

أولا: لأن الله عزل وجل قد تولى بعلمه وحكمته تسمية المسلمين: «...هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا...».

ثانيا: لما كان هذا الاسم (المسلمون) هو الوصف الأدق والأعلم والأحلى، فقد سمى الله جل ثناؤه به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره التزامه، وأن يجهر به ولا يخافت: «قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين. وأمرت لأن أكون أول المسلمين».

ثالثا: أن هذه التسمية أو الوصف الديني العبادي التوقيفي، قد وُصف به الأنبياء جميعا بلا استثناء كما وصفت به دياناتهم:

أ) قال نوح عليه السلام: «فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين».

ب) «ووصى بها إبراهيم بينه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون».

ج) «وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين».

د) وشهد حواريو عيسى - عليه السلام ورضي الله عنهم - بأنهم «مسلمون»: «وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون».

هـ) وقال يوسف عليه السلام: «رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين».

و) وهذا الوصف العليم الكريم المحبب ملازم لكل مسلم حتى الموت: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون».. ملازم له في حياته كلها لا ينفك عنه قط، لأن الانفكاك عنه مروق من الإسلام.

2) أن التسميات الشرعية التوقيفية هي التي تترتب عليها الأحكام في الدنيا، وتترتب عليها المساءلة والثواب والعقاب في الآخرة. وهذا هو المهم - من قبل ومن بعد - في ميزان الله الذي ليس للمسلمين ميزان سواه.

3) إن الانحصار الطوعي في مفردة «الإسلاميين» يعزل هؤلاء من سائر الأمة.. وهذا ما وقع في بعض البلدان العربية. إذ بدا الصراع وكأنه صراع بين فسطاطين: فسطاط الإسلاميين.. وفسطاط سواهم من الناس.. نعم. تبدى الصراع وكأنه معركة حامية بين إسلاميين وكافرين، على حين أن الجميع مسلمون، باستثناء الذين لا يدينون بملة الإسلام.

إننا في حقبة تفتيت العرب والمسلمين تفتيتا يوقعهم تحت طائلة «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى». وإنما يجري التفتيت تحت عناوين شتى منها: التجزئة الجغرافية.. ومنها الفتنة المذهبية والطائفية.. ومنها «التصنيفات» والتسميات التي تتقدم وتنتشر وتسود على حين تتأخر التسميات الشرعية الجامعة وأولاها وأهمها وصف «مسلمون».

فيلزم المسلم ما ألزمه به ربه من التسميات «هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا».. هو - سبحانه - الذي سمى لا غيره. وكفى به عليما خبيرا حكيما. وليفخر المسلم ويعتز ويرفع رأسه بأنه «مسلم» فحسب: لا ليبرالي، ولا علماني، ولا يميني، ولا يساري، ولا إسلامي، ولا سلفي، ولا صوفي

أولم يكف المسلمين بأن الله - جل ثناؤه - قد سماهم مسلمين؟! ألا فليذكروا أن التسمية الأرقى والأكمل والأجمل والأبقى والأبعد هي اسم «مسلم».. ومن حسن الحظ أنه اسم يتسع للحق كله، وللمعارف كلها، وللفضائل جميعا، وللاستنارة كلها: عقليّها ونقليّها وكونيها ووطنيها وإنسانيها ودنيويها وأخرويها.

ما لكم إذا قيل لكم توسعوا بسعة دينكم في التسميات اثاقلتم إلى أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان؟!