دروس من أقدم الديمقراطيات

TT

في محاولته استعادة توجيه الأجندة السياسية البريطانية، تعثر رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في واقع فرضته صحافة لا تنظمها قوانين في مناخ ديمقراطي لا مثيل له بفضل إصرار «فليت ستريت» (شارع الصحافة) على الاحتفاظ بحريته والالتزام بتقاليد مهنية عريقة أكثر صرامة من التشريعات. فعظمة الديمقراطية الحقيقية عراقة تقاليدها في الممارسة وليس في تشريعات ودساتير (لا يوجد في بريطانيا دستور مكتوب أو قوانين منسوخة كفرنسا أو أميركا أو مصر مثلا).

مع عودة البرلمان (بمجلسيه العموم واللوردات، وهو قلب الأمة السياسي وميدان نشاطي الحكومة ووزارة الظل المعارضة) للانعقاد بعد ظهر الاثنين بعد إجازة أعياد الميلاد استدعانا السكرتير الصحافي لرئيس الحكومة إلى داونينغ ستريت للقاء كاميرون ونائبه، نيكولاس (واسم التدليل نك) كليغ، زعيم حزب الديمقراطيين الأحرار، الشريك الأصغر للمحافظين في حكومة الائتلاف ليقدما كشف حساب إنجازات الحكومة وتصورهما للـ15 شهرا الباقية افتراضيا في عمر الحكومة، في ملف مطبوع من 48 صفحة.

أخفت الحكومة حذفها من الملف الموزع على الصحافة ما أخفقت عن تحقيقه من الوعود. وكان كليغ وكاميرون ينويان شرح أسباب الإخفاق وتقديم استراتيجية للعلاج. لكن المستشارين السياسيين أقنعوهما بحذف السلبيات تجنبا لتقارير صحافية سلبية.

ولسوء حظ الزعيمين التقطت عدسة مقربة تقرير المستشار السياسي عبر مظروف شفاف. تحول إخفاء المعلومات السلبية إلى مانشيت «الديلي تلغراف»، الصحيفة الموالية تاريخيا للمحافظين، لكن تغلب ولاءها للقراء وللمهنة على موقفها السياسي لتدفع الرياح غير المشتهاة بسفينة الحكومة بعيدا عن مرفأ إنجازات منتصف فترة الحكم.

حكومة الائتلاف تشكلت منذ عامين ونصف، وأحد أهم بنود وثيقة الائتلاف (من 293 بندا) تحديد فترة الحكومة بخمس سنوات في تطور غير مسبوق.

تقليديا تجرى الانتخابات بعدما يقدم رئيس الحكومة الاستقالة إلى الملكة، إما بفقدان الثقة في تصويت برلماني (كحكومة جيمس كالاهان العمالية التي فقدت الثقة بصوت واحد 1979) أو عندما يقدر رئيس الوزراء أن الوقت مناسب لخوض الانتخابات (مثل مارغريت ثاتشر عام 1983 وتوني بلير عامي 2001 و2005 عند ارتفاع شعبية الحكومة في استطلاعات الرأي لما يكفي لكسب الانتخابات).

كليغ يريد أن يصبح تحديد فترة الحكومة وإجراء الانتخابات كل خمس سنوات تقليدا، يمارس دستوريا ويحبذ تمرير تشريع برلماني Act لفرضه؛ وهو ما لا أتوقعه إذ سيرفضه مجلس اللوردات لأن التقييد بقوانين غير مرنة يناقض طبيعة الشخصية السياسية البريطانية.

الحكومة الائتلافية معتادة في أوروبا نتيجة proportional representation نظام التمثيل النسبي (الانتخاب بالقوائم في لغة العرب) لكنها غير مألوفة في الديمقراطية البريطانية الأكثر نضجا بالتمثيل المباشر لناخبي كل دائرة بنائب واحد.

مقاعد مجلسي العموم واللوردات في صفوف ككتلتين متقابلتين (ليس نصف دائرة كبرلمانات أوروبا) ولذا فطابع الجدل السياسي تخاصمي adversarial ومنازلة مرافعات بلاغية (معظم الساسة البريطانيين محامون).

الصحافة التلفزيونية (خاصة التجارية كمحطات سكاي وITV والقناة 4) سعت إلى أمركة الحملة الانتخابية عام 2010 واستدرجت زعماء الأحزاب الثلاثة (المحافظين، العمال، والديمقراطيين الأحرار) إلى مناظرة تلفزيونية أخلت بموازين تغطية الصحافة كعين وأذن الشعب ديمقراطيا.

فلخمسة قرون تحسم نتيجة الانتخابات على عتبات المنازل، وفي الأسواق والمرشح يحاور أبناء الدائرة وجها لوجه، وليس كمنازلات مرشحي الرئاسة الأميركية التلفزيونية التي احتقرها البريطانيون تاريخيا كابتذال أميركي American vulgarity. ولأن الليبراليين لم يفوزوا بمنصب حكومي منذ 1935 فكليغ الذي لم يواجه أبدا مسؤولية الحكم سهل عليه الاتجار بالشعارات في المعارضة فصوب قذائفه ببلاغة شكسبيرية نحو خصميه، رئيس الوزراء (وقتها العمالي غوردون براون) وزعيم المعارضة المحافظ كاميرون. ارتفعت شعبية كليغ، خاصة بين الشباب الذي يصوت لأول مرة (سن 18 فما فوق أي مواليد 1990 - 1994) إلى جانب المصوتين تقليديا للأحرار وهم نحو 12% من الناخبين، والساخطين على العمال، لكنهم من طبقات اجتماعية لا تصوت تقليديا للمحافظين، والمثقفين وهم بطبيعتهم يساريون استاءوا من تقارب العمال بزعامة بلير مع أميركا وإدارة الاقتصاد بأسلوب رأسمالي فصوتوا لكليغ. وأدى هذا الخلل في التغطية إلى برلمان معلق، الأغلبية فيه للمحافظين (36%) لكنهم أقل من 50% فكانت حكومة ائتلافية.

الواقع الاقتصادي المتردي الذي تركته الحكومة العمالية دون تشريعات لإجبار البنوك على إقراض المشاريع الصغرى، وارتفاع المديونية كانت نتيجته الحتمية تخفيض الإنفاق على الخدمات. وكنائب لرئيس الحكومة وله وزراء في الأعمال والصناعة والخزانة واجه كليغ وحزبه حقائق اقتصادية وواقعا عمليا لم يعتده. واكتشف عدم وجود ميزانية لتنفيذ وعوده في المناظرة التلفزيونية كتجميد المصروفات الجامعية والتوسع في المنح الدراسية وأصبح الشخصية المكروهة الأولى بين الشباب الذي صوت له لأول مرة عام 2010.

في اللقاء الصحافي المشترك معنا يوم الاثنين كرر رئيس الوزراء، في كل إجابة عبارات كـ«مثلما قال نك» و«تماما أتفق مع نك،...نك شرح لكم الأمر بوضوح..»، بينما لم يذكر كليغ شريكه باسم التدليل «ديف» سوى مرة واحدة.

زعيم المحافظين كاميرون يحاول رفع أسهم شريك الائتلاف كليغ شعبيا لإدراكه أن الأصوات التي سيخسرها الديمقراطيون الأحرار ستذهب إلى العمال، وبالتالي قد ترجح فوزهم بأغلبية برلمانية. حسابات كاميرون أن ارتفاع شعبية كليغ ستقسم الأصوات المعارضة للمحافظين بين العمال والديمقراطيين الأحرار مما يتيح فرصة أكبر للمحافظين.

حسابات تنم عن نضج سياسي وخبرة طويلة في العمل الديمقراطي.

الدرس المستخلص للقراء أنه حتى في أعرق الديمقراطيات تبرز هوة هائلة بين الشعارات المثالية والآيديولوجية وبين الواقع السياسي. فحزب ظل في المعارضة لـ75 عاما وجد نفسه في الحكومة، فكشف الشعب - بفضل الصحافة الحرة - في بضعة أشهر زيف الشعارات واستحالة تحولها نقودا في جيب المواطن، وانخفضت شعبية حزب كليغ من 22% في انتخابات 2010 إلى 9% هذا الأسبوع.

والدرس الآخر ضرورة المرونة في سياسة ليست أبيض وأسود. غريزة حب البقاء فرضت الائتلاف بين تيارات بآيديولوجيات مخالفة، وقدم حزب المحافظين الفائز بالنصيب الأكبر تنازلات أكبر، فالسياسة تتطلب براغماتية التوصل إلى برنامج يرتضيه الناخب.

الدرس الثالث أن الصحافة الحرة، كضمير الرأي العام يستحيل على الساسة استغفالها، لأن غريزة حب البقاء تضع ولاء الصحافة للمهنة قبل أي وعود يمنحها حملة الأسهم أو صاحب الصحيفة لزعيم حزب؛ فخسارة ثقة الحكومة (التي تتغير بالانتخابات) يمكن تعويضها أما فقدان ثقة القراء (المستمعين والمتفرجين) فتعني نهاية المؤسسة الصحافية.