العواصف لا تهب باتجاه واحد

TT

عواصف السياسة لا تقل تأثيرا عن عواصف الطقس؛ فرياحها متباينة الاتجاهات مختلفة التأثير مضطربة القوة، وهي، على الرغم من ثوابت الطقس، تجد دائما متنفسا في حالات الاضطراب لتعربد كيف شاءت لها الفصول، لا فرق بين ربيع وخريف، وكيف تدفع لها الإرادات والمصالح، لا فرق بين شرق وغرب.

تمر المنطقة بعواصف مناخية شديدة الاضطراب والقسوة، وقد سبقها فيما سمّي بالربيع العربي عاصفة كبرى بمقياس التاريخ وامتداد الجغرافيا، وهي عاصفة أكبر في مقاييس السياسة وموازين الاقتصاد، ولم تفترق الرهانات تجاهها إلا بقدر ما اختلفت الموازنات، ولكل وجهة هو مولّيها وعاصفة سيمتطيها وأخرى سيتصدى لها.

رحب الغرب ورحبت إيران معه ببشائر ربيع عربي هادئ وسلس، يقلب حقبة تاريخية تزيل أنظمة جمهورية عسكرية ويبشر بحقبة تاريخية جديدة، وكل يغني على ليلاه، وبعد لأيٍ لم يطل تحولت البشائر صمتا تجاه صعود القوى الأصولية، أصبح ندبا حين هوجمت السفارات الأميركية والغربية، وأحرقت وقتل السفراء والموظفون، ثم تلكؤا حين وصلت الأحداث لسوريا، وهو تلكؤ غربي تحول نحيبا ولطما في إيران لم يلبث أن أصبح تدخلا سافرا في قتل الشعب السوري بغطاء روسي وصيني دولي.

في مقابل الموقفين، كان موقف دول الخليج وبعض الدول العربية معها؛ فهي تأملت المشهد، وأكدت على وقوفها مع الشعوب العربية وتواصلها مع مؤسسات الدولة في تلك الدول، وأخذت السعودية زمام المبادرة في الموقف من الثورة السورية، ورفضت، ومعها تلك الدول، كل التصرّفات الوحشية التي اقترفتها أيدي قوات الأسد المسلحة، وسعت بكل سبيل لإنهاء معاناة الشعب السوري.

ربضت القوى الأصولية والإسلام السياسي في السلطة في الدول التي وصلت لسدة الحكم فيها بالوصيد، بين الطرفين، وهي تحمل أسفارا من أربعة أطوال: طول ترويج معاناة في المعارضة، وطول تحالف مع إيران، وطول بحث عن رضا الغرب، وطول استفادة من أموال دول الخليج رسميا وحركيا، فصارت تلهث بكل اتجاه؛ فتارة تريد الاحتفاظ بقوة المعاناة في المعارضة، فتسعى للاحتفاظ بكل صدقية المعارضة وهي في السلطة، وتارة تنحاز للمشروع الإيراني في سوريا، وإن بأعذار واهية يعبّر عنها موقف متردد في الانتصار للشعب السوري، وتارة أخرى بمخاطبة إسرائيل بالصديق العزيز والعظيم وأبلغ بالفعل في سيناء في سلسلة تقديم فروض الطاعة والخدمة، ورابعة أخيرة في حرص منقطع النظير على الظفر بشيء من ميزانيات دول الخليج التاريخية، إن لم يكن رسميا فشعبيا على الأقل.

لقد كانت العاصفة السورية عاصفة عكس الاتجاه، ومن هنا جاءت صدمة كثير ممن رحّبوا بما جرى في العالم العربي منذ مطلع 2011 بأحداثها، وها هو العراق يسير بنفس الاتجاه ويواجه نفس الرفض من إيران وأتباعها المنخرطين في مشروعها في العراق ولبنان وسوريا، فاحتجاجات الأنبار والموصل وتحالفها مع بعض الشيعة وبعض الكرد يوضح بجلاء حجم الحنق الشعبي على ديكتاتورية وطائفية طفل إيران المدلل في العراق رئيس الوزراء نوري المالكي.

لم يزل نوري المالكي مطلق اليد في حكم العراق، ولا يستطيع المتابع إلا أن يقارن كيف أن «دولة ليبيا» الجديدة تحاكم رئيس وزرائها السابق على أشهر أمضاها في السلطة، وتتهمه فيها بإنفاق مليارات لم يكشف التحقيق بعد مصيرها، وبالمقابل يبقى نوري المالكي في سلطة العراق لسنوات لم تستطع حتى القوى التي فازت عليه في الانتخابات مساءلته عن أي شيء منها، ما دام يرقد هانئا في حضن النفوذ الإيراني.

من جهة أخرى، وبعد عاصفة استحواذ الأصوليين والإسلام السياسي على السلطة في دول الاحتجاجات العربية، لم تزل خدمات «إخوان الخليج» تترى على إخوان السلطة الجديدة على كل المستويات، بالمال رسميا إن استطاعوا كما تفعل دولة خليجية، أو بالاستفادة من وجود شيء من التماهي الحالي بينهم وبين الدولة المصرية التي تراعيها دول الخليج، أو حركيا عبر الهجمات المنظمة التي يشنها أتباعهم في الخليج ضد دولهم حين تخالف المزاج الأصولي لدول الإسلام السياسي الجديدة، أو عمليا عبر الزيارات التي تشهد احتفاء متزايدا بأصوليي دول الخليج، أو فكريا عبر حجم المنتج التراثي والديني الذي يقدّمه إخوان الخليج لتبرير خيارات قادتهم في السلطة السياسية الجديدة.

تعي دول الخليج ولا يعي المتقافزون إلى بلاط الإسلام السياسي الجديد من أبنائها أنها لا يمكن أن تكون مثابة لهم، يرتحلون منها ويأوون إليها كيفما شاءوا وكيفما أرادوا، وأن التغشي بالإسلام السياسي وشعاراته لا يمكن تسويقه عليها، خاصة بعدما فضح نفسه في مدة لم يتوقع كثير من المراقبين قصرها، حيث لا النموذج الإيراني مفيد، ولا النموذج السوداني مجدٍ ولا الغزّي نافع، فضلا عن الطالباني.

عندما يريد بعض القادة السياسيين الجدد في بعض بلدان الاحتجاجات العربية توظيف بعض أبناء دول الخليج ضد بلدانهم، فعليهم أن يعلموا حجم التبعة التي يجب أن يتحمّلونها، فهذه الدول لن تسكت مطلقا على اختراقات أمنية داخل بلدانها تدين بالولاء المطلق لأشخاص في بلد آخر، وكيف أن هذه الاختراقات قد تتحوّل لتشكيل خلايا تجهد في جمع الأموال للتنظيمات السياسية في تلك البلدان، وتقوم بتشكيل حملات لتشويه سمعة دول الخليج التي لا تستجيب لخيارات إخوانهم هناك.

كشفت دولة الإمارات العربية المتحدة عن واحدة من خلايا الإخوان المسلمين التي زرعوها في الإمارات، فقامت القيامة في مصر، وتوالت الوفود المصرية الرسمية على الإمارات لإنقاذ هؤلاء العشرة أو الأحد عشر متهما دون بقية السجناء المصريين، وهو أمر أشبه ما يكون باعتراف بولاء هؤلاء الأشخاص للتنظيم الأم بمصر، وإلا ما فرقهم عن بقية السجناء؟!

وفي ذات السياق، وفي الكويت، تحدثت النائبة الكويتية بمجلس الأمة صفاء الهاشم عن أن «جلسة مناقشة الوضع الأمني كانت جلسة ماراثونية، استمرت 6 ساعات»، وأضافت أن «التأكيد الوحيد أتى من رئيس الوزراء الذي أكد قائمة الإمارات والخلايا الإخوانية بالكويت، ومصدر تمويلهم هو الكويت»، كما جاء في هذه الصحيفة يوم أمس.

في ظل هذه الاختراقات المتجددة لأمن دول الخليج من قبل جماعات الإسلام السياسي، فإن دول الخليج يجب عليها أن تتحد في وجه مثل هذه الاختراقات وتقف لها بالمرصاد، وأن تحاسب كل من يشن حملات آيديولوجية منظّمة ضد دولة خليجية أخرى يتطاول فيها على سيادتها ومؤسساتها.