آخر المتفائلين.. يتشاءم

TT

«لا مكان في الحكومة الانتقالية للأسد، وخطابه الأخير هو خطاب الفرص الضائعة». هكذا نقلت وكالات الأنباء قبل أيام تصريحات الموفد العربي والأممي الأخضر الإبراهيمي حول الأوضاع في سوريا، وهي من أوضح التصريحات العلنية التي سمعت من الدبلوماسي المخضرم علنا. خلف الأبواب المغلقة للأخضر وجهات نظر أكثر وضوحا، فقد نقل عنه قوله إنه لم يذهب إلى الأسد باقتراح إلا وقبله ولم يقبل اقتراحا ونفذه!

حقيقة الأمر أن هناك حيرة في فهم تداعيات الأوضاع في سوريا، فهل فهمها عصي إلى تلك الدرجة من التعقيد؟ أم إن هناك بعض المفاتيح المؤدية إلى فهم أكثر وضوحا للحالة السورية لم تكن موجودة في حالات أخرى ضربها الهبوب العربي، البعض سيسكت عنها دفعا للحرج من كشفها؟!

لمن يريد الفهم باختصار، مشكلة الأسد مركبة يتداخل فيها عدد من العناصر على رأسها تأثير الحاشية، وهي حاشية لها علاقة - مع الأسف أو هكذا تريد أن يعرف الناس - بالطائفة. فهناك دراسة مهمة نشرتها «لوموند ديبلوماتيك» مؤخرا بقلم صابرينا مرفين، لعل عنوانها يدل على ما تحويه من توجه «ثقل التاريخ وذاكرة الاضطهاد: المصير الغريب للعلويين السوريين»! ومما جاء في تلك الدراسة أن العلويين تاريخيا شعروا باضطهاد جوارهم لفترة زمنية طويلة، وبعد الاستيلاء على الدولة، رسخ في ذهن قياداتهم أن الابتعاد عن السلطة يعني العودة إلى حال المُضطهد المُهمش، وربما المعزول، والتي لا يطيقونها، وقد يكون ذلك تصورا مصلحيا للبعض من أجل استمرار التحكم في الدولة، وقد يكون وهما متضخما أريد له أن يستقر في أذهان البعض من أجل الحفاظ على السلطة، إلا أن الشعارات التي امتدت لسنوات طويلة وحولت تحكم تلك الفئة في السلطة على أنه دفاع عن العروبة وفلسطين، يضاف إليه قدرة الأسد الأب على المناورة بين الطوائف ونسج التحالفات الإقليمية، جعلت ذلك الشعور خافتا وغير ظاهر، ولكنه ممارس من خلال انطواء أجهزة النظام الأساسية على قاعدة علوية متحكمة، وخاصة الأجهزة الأمنية.

تلك مفارقة مسكوت عنها خوفا أو رجاء، وهذا لا يعنى أن عددا من المستنيرين من الطائفة والبعيدين عن التكسب قد شقوا عصا الطاعة عن السلطة، واندمجوا في تيار مقاوم لها. إلا أن البعض ارتبط بقاؤه ورفاهه بالسلطة تلك، وهي الأقلية التي تقوم الآن بالبطش، في قمتها ما يسمى البطانة الداخلية للنظام السوري.

إذا انتقلنا إلى ضوء آخر يفسر ما يحدث في سوريا نجد بعض التفسير في المقابلة التي أجرتها حفيدة إدوارد شيفرنادزة، مع الرئيس الجورجي كصحافية، فهي، أي سوفيكو شيفرنادزة، قالت بعد اللقاء الذي تم في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، إن الرئيس الأسد قال لها: «أنا أعشق الحياة، وأحب الرياضة، ولدي زوجة رائعة وأولاد صغار». ومن ملاحظات سوفيكو أن «المحيطين بالرئيس يبدون اهتماما مذهلا لراحته وعدم تعكير مزاجه». لعل في تلك الملاحظات ما يظهر بعض الصورة التي تفسر ما يحدث، فهو - أي الرئيس - لديه أطفال صغار يحبهم، ولكن أجهزته تفطر كل يوم على لحوم أطفال السوريين العزل!

إذا جمعنا التصريحات والانطباعات التي استكشفها الأخضر الإبراهيمي، مع ملاحظات من قابل بشار الأسد أو عرفه عن قرب في السنوات الأخيرة بما فيها مقابلة سوفيكو وقبلها باربرا والترز، لا يستعصي على الفطن الوصول إلى نتيجة مفادها أن الأسد رهينة الحاشية، وضحية البطانة وخلف كومة من الأوهام، والبطانة قررت أن تنتحر معه وبه في بحر من الدم السوري، فهو يقبل كل اقتراح ولا ينفذ أيا منها! وهو يحب الحياة والأطفال ولا يعبأ بقتل آلاف الأطفال وتشريد آخرين في بقاع الأرض، هو يحب سوريا ويكره إلى حد القتل الجماعي السوريين!

لم يستطع المعاونون الذين رتبوا اللقاء بين سوفيكو، حفيدة شيفرنادزة، والرئيس أن يقدموا له ملخصا ولو سريعا لتاريخ جدها، الذي اقتحم المتظاهرون عليه برلمانا اعتبروه مزورا في تبليسي العاصمة الجورجية، في نوفمبر 2003 وأجبروه في النهاية على أن يترك الحكم، كما قال لاحقا: «رغبة منه في تفادي أي صراع دامٍ على السلطة». حقيقة الأمر أن تنازل شيفرنادزة كان بسبب عامل قوي، هو وقوف الجيش الجورجي وقتها على الحياد، الأمر الذي لم يكن بالمستطاع في سوريا الأسد، حيث سُلمت مفاتيح قوى الضبط في الجيش والأمن إلى قادة من الطائفة! التي خرجت من ماض معجون بالبؤس إلى تسيد غير مسبوق في المال والسلطة لا تستطيع نخبتها على الأقل أن تعيش دونه.

تلك بعض مفاتيح فهم المعضلة السورية التي أخذت تأكل الأخضر واليابس في أنحاء سوريا، وتهدد أيضا الجوار الإقليمي. إلا أن الحاشية تبدي ضعفا الآن، ولعل الرضوخ إلى تسليم أكثر من ألف معتقل وإطلاق سراحهم من سجونها، في سبيل إطلاق ثمانية وأربعين محتجزا إيرانيا نهاية الأسبوع الماضي، مؤشر إلى أن قبضة الحاشية بدأت تضعف، حيث اختفى ثمانية وأربعون شخصا لفترة ستة أشهر داخل الأراضي السورية، دون قدرة للأجهزة المعروفة بفظاظتها، على معرفة مكان أو طريق اختفائهم. إذا لم تكن تلك الرسالة الواضحة التي تقول إن الدولة لم تعد موجودة، فليس تعبير (مذهل) الذي وصفت به الصحافية سوفيكو درجة عناية المحيطين بالأسد من أجل راحته يمكن أن يكون مذهلا في المقبل من الأيام.

آخر الكلام:

للمرة - لا أعرف كم - يجتمع الشقيقان الفلسطينيان من أجل ردم الخلاف بينهما، في مكة والدوحة والقاهرة مؤخرا، لا أعتقد أن الهوة بينهما سوف تردم، لقد أصبح الهوى والمصالح المتجذرة لدى الطرفين أهم بكثير من موت أطفال فلسطين من الجوع أو الرصاص الإسرائيلي؛ سيان. المهم مصالح نخبة الشقيقين لا تمس، فلا مصالحة ولا يحزنون!!