ماذا فعلت «أولغا» بالسوريين؟

TT

لا أحد يعرف عدد النازحين السوريين الذين يقضون، هذه الأيام، بردا وصقيعا، بفعل العواصف والثلوج والسيول. والمرجح أن أحدا لا يريد أن يعرف.. فالحقيقة مؤلمة، ودفن الرؤوس في الرمال أسهل، ألف مرة، من مواجهة العار ووخز الضمير. الدول المضيفة تستبسل لحفظ ماء الوجه، وتبييض صفحتها في مرآة الدول الغربية. لكن الهوة فادحة بين الحاجات المتزايدة للنازحين والإمكانات المتواضعة للمستضيفين بمعية جمعياتهم والهيئات الإنسانية، وردمها يبدو عصيا إن لم يكن مستحيلا. النزوح السوري بات أشبه بفيضان بشري يغرق الدول المحيطة ويزلزلها. وما تتستر عليه المصادر الرسمية من كوارث، يبوح به النازحون أنفسهم. في مخيم «الزعتري» الأردني الذي أصبح عنوانا للذل الإنساني، تقول النازحة إسراء لأحد الصحافيين: «في كل ليلة تهب الرياح العاتية، تمزق مجموعات كبيرة من الخيام، دون أن يكترث بنا أحد. في هذا المخيم يموت الناس ويصرخون ويتوسلون ولا مجيب.. كل يوم يموت طفل وطفلان من شدة البرد». وعلى ذلك قس، ففي لبنان والعراق وتركيا الوضع ليس أفضل حالا. لا يتمتع لاجئو مخيم «القاع» و«باب الهوى» ونازحو عرسال ووادي خالد بنعمة الـ«فيس بوك» أو «تويتر» ليقيموا الدنيا ولا يقعدوها بتغريداتهم والترويج لرحيل فلذات أكبادهم، فهم بالكاد يكافحون من أجل علبة حليب أو قطعة ثياب ترد غائلة الصقيع عمن بقي من أطفالهم.

ما حدث بسبب العاصفة منذ الأسبوع الماضي - وما زال الشتاء في أوله - أكثر من جريمة بحق من بات يقدر عددهم بثلاثة ملايين آدمي، حياتهم أقرب إلى التشرد منها إلى الاستقرار الذي يليق ببني البشر. نصف هؤلاء في الداخل السوري المعذب، يبحثون عن أمن مستحيل. آلاف منهم، لا سيما في إدلب، لجأوا إلى مبان بيزنطية قديمة وكهوف منسية هربا من المطر وعصف الريح. «اليونيسيف» تتحدث عن مليون سوري صاروا مهددين بالموت جوعا في بلادهم ولا تملك أي منظمة إنسانية إغاثتهم بسبب المعارك الدائرة هناك. ليس من فر هاربا أفضل حالا ممن بقي، فثمة لازمة بتنا نسمعها من أفواه النازحين بعد أن حاصرتهم السيول الهوجاء واقتلعت خيامهم وتركتهم في العراء: «الموت أهون علينا من هذه الحياة».

مر خبر وفاة مواطن سوري جرفته المياه في لبنان منذ عدة أيام عابرا، لم تذهب كاميرات التلفزة لتصوير المكان والبحث عمن يعرف الرجل، ويتحدث عن مآثره، كما تفعل، عادة، حين يتضرر أحد المواطنين.. فالإنسان السوري صار أرخص حتى من الفلسطيني، وأقل شأنا. لا عجب، فبورصة الكرامة العربية إلى تهاو مريع!

1500 نازح سوري يدخلون لبنان يوميا، تركيا تشكو تزايد أعداد الهاربين من جحيم الحرب، ومثلها الأردن. سكان الجوار السوري يتزايد بالتالي ذعرهم. ثمة في لبنان من نادى بإغلاق الحدود، في وجه النازحين، فاتهمه البعض الآخر بالعنصرية. لم يلحظ هؤلاء المنافحون عن حقوق الإنسان، أن الأمر لا يتوقف على حزب سياسي بعينه، فما تتناقله ألسن العامة، يفوق ما يسمع على المنابر السياسية. يتداول لبنانيون بقوا حتى وقت قريب جدا يتعاطفون مع الثورة أن «السوريين خرجوا من الباب وعادوا من الشباك»، وأن «الجناية السورية المقبلة ستكون أسوأ على لبنان مما فعله النظام الأسدي». ثمة من بات يتساءل عن عدد الإرهابيين الذين يتسللون تحت ستار النزوح، وما الذي يخططون له. قلق لا يأتي من فراغ، فالمخاوف نفسها هي التي تدفع بدول أخرى لجعل مخيمات النزوح سجونا محاطة بأسلاك شائكة، بينما توقفت دول غيرها عن استقبال السوريين بالكامل.

ليست الطبيعة وحدها هي التي تتآمر على نازحي سوريا، فـ«حاميها حراميها»، والعديد من الهيئات التي يفترض أنها تقدم الإغاثة، تسطو وتنهب، وثمة هيئات غيرها تدس الاستغلال السياسي في السكر والأرز. وتقول دراسة أجريت مؤخرا إن قسما لا يستهان به من المساعدات الإنسانية بات مربوطا بأهداف سياسية أو دينية وأحيانا مجرد مآرب انتهازية رخيصة.

خرجت مئات المظاهرات في سوريا منذ أيام تحت شعار «جمعة مخيمات الموت» تحية للنازحين الذين يدفعون أعمارهم من أجل حرية سوريا. لكن هذا التضامن الرمزي لن يجدي كثيرا، أمام واقع تتعاظم مأساوياته، ودرجات حرارة تتدنى إلى الصفر.

إن صح ما يقوله المبعوث العربي والأممي الأخضر الإبراهيمي من أنه لا نهاية لهذا الجحيم إلا بحل سياسي، بينما لا تلوح في الأفق أي بادرة لاتفاق أميركي - روسي تسعف في إنهاء الأزمة، فإن كارثة إنسانية، لم تشهد المنطقة مثيلا لها، تلوح في الأفق.

المسؤولية تطال النظام أولا بطبيعة الحال الذي يمعن تقتيلا وتذبيحا وعنادا، لكنه لا يعفي الآخرين من مسؤولياتهم. الجميع يشارك في المذبحة السورية، الذين دعموا الثورة كما الذين وقفوا ضدها. الاقتتال الأممي على أرض سوريا دمر مقومات العيش. هذه لم تعد ثورة بعد أن صارت المفاوضات عليها تجري بين قطبين عالميين متنازعين، بينما يموت الآلاف بردا وجوعا ومرضا وقصفا، بينما المعارضة السورية تنتظر عاجزة، أمام أبواب قاعات الاجتماعات السرية. هذه لم تعد ثورة بعد أن تحولت إلى مجزرة قد تغرق دماؤها كل المحيطين بها إن استمرت على وتيرتها، ولا مبالاة للمستفيدين منها. لم تعد ثورة بعد أن فقد النظام كل مقومات الحكم، من أرض ومطارات واقتصاد، ولم يعد له إلا شبيحته ومخابراته ومخازن الأسلحة، بينما المعارضة تقتتل وتتناحر من أجل زقاق هنا وشارع هناك. ما يحدث في سوريا تراجيديا عبثية سوداء، لن تتوقف إلا بعد أن ينهك الدمار كل اللاعبين.

ثمة مسلسل لبناني شهير عنوانه «العاصفة لا تهب مرتين». وهو عنوان مخادع لأن عواصف الشتاء لا تتوقف عن الهبوب. فإن كانت العاصفة «أولغا» قد أطاحت بمئات الخيام وحولت مخيمات اللجوء إلى مستنقعات من الوحل والبلاء، وحصدت القتلى، فإن العواصف المقبلة، رغم كل التبرعات والاحتياطات، لن تكون أكثر رحمة على من خرجوا من بيوتهم. لقد فاق عدد النازحين السوريين، من مسجلين وغير مسجلين، عدد سكان لبنان، ومات 60 ألف سوري، ولا تزال شهوة الخراب مفتوحة. لهذا ليس من مصلحة أحد أن يتحدث عن حفنة من المئات أو الآلاف يموتون بردا وصقيعا.. فليس بالدفء وحده تتحقق المآرب السياسية الوضيعة، وإنما بالتشريد والتدمير وتحويل حياة الناس إلى جحيم مقيم.