أي سلام تراهن عليه إسرائيل؟

TT

يعكس السيد فاروق الشرع وزير الخارجية السوري في ما قاله لقناة فضائية عربية مشاعر عميقة يتداولها الشارع السوري علانية في ان اسرائيل غير جادة في السلام ولا تريده بل انها تذهب إلى مفاوضات السلام شكلا فقط، أما مضمونا فإنها تعبر عن رفضها للسلام الشامل والعادل في اي شكل من اشكاله او صورة من صوره.

ومع التراجع وشبه التوقف والجمود في مفاوضات السلام التي بدأت بين سورية واسرائيل بعد مؤتمر مدريد وبالمشاركة الاميركية المباشرة وتحت مظلتها وعلى ارضها، واخيراً بعد فشل لقاء القمة في جنيف بين الرئيسين حافظ الاسد وبيل كلينتون الذي كان يهدف إلى اعلان سورية قبولها بتنازلات حدودية ومائية ليكسب رئيس وزراء اسرائيل باراك شعبية تساعده على تجاوز ازماته الداخلية... اي انه يريد ان يستخدم سورية ورقة في يده في شأن سياسي داخلي محلي اسرائيلي فتصوروا إلى اي درجة يجمح الخيال اللاواقعي لدى حكام اسرائيل في محاولاتهم لتطويع العرب وفق رغباتهم وحسب متطلباتهم وما تفرضه عليهم ظروفهم واوضاعهم الداخلية لينقلبوا بعدها اشد بأساً واكبر الحاحاً في طلب المزيد من التنازلات والتنازلات التي لا تنتهي ولا تقف عند حد.

كل ذلك يؤكد كما قال السيد فاروق الشرع ان اسرائيل لا تريد فعلا السلام وبالتالي الانسحاب من الجولان إلى خطوط الرابع من حزيران 1967 واعادة الحقوق العربية كاملة غير منقوصة إلى اصحابها واذا انسحبت فالانسحاب مشروط بما لا يمكن ان تقبل به سورية لا اليوم ولا غداً ولا في اي وقت من الاوقات، فاما انسحاب كامل غير مشروط واما صراع مستمر ولا بد ان يحسم في يوم من الايام لصالح صاحب الارض والحق مهما طال الزمن وغيب الضباب رؤيته، وبالاسلوب الذي سيتحدد حينها وفقا للزمان والمكان وهو يوم لن تكون نتيجته قطعاً في صالح المعتدي والمغتصب.

السباحة في طبرية ويعزز هذا الشعور في الشارع السوري مشاعر متراكمة منذ اكثر من نصف قرن بأن اسرائيل كانت هي السبب الاول والرئيسي والمباشر في كل ما عانته المنطقة العربية من فقر وظلم وقهر وتفكك وتجزؤ واضطرابات داخلية وبينية، فلقد شهدت سورية نفسها فترة قلقة حرجة في تاريخها السياسي في الخمسينات بل منذ النكبة الفلسطينية عام 1948 ثم تبعتها فترة اكثر قلقا في الستينات تخللتها حرب حزيران 1967 واحتلال مساحات واسعة من الارض العربية ومنها هضبة الجولان السورية. وفي السبعينات ومنذ ان اعتلى الرئيس حافظ الاسد سدة الرئاسة في سورية شهدت البلاد استقراراً في الحكم وتوحداً في الهدف لم تعرفه من قبل وكانت تعد لتنفيذ خطط تنموية طموحة وواسعة النطاق في كل مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلا ان استمرار الاحتلال وكون سورية دولة المجابهة الرئيسية في المنطقة جعلا فترة السبعينات التي تخللتها حرب تشرين التحريرية، حيث خاضت سورية وللمرة الأولى حربا هزت كيان اسرائيل ودمرت معنويات جيشها قبل ان تدمر سلاحه، ووصلت طلائع السوريين المنتصرين إلى شواطئ طبرية ليسبحوا في مائها، أقول جعلا السبعينات والثمانينات والتسعينات أي ثلاثين عاما من تاريخ سورية فترة تأهب وجاهزية واستعداد لصد اي عدوان تتعرض له سورية او لبنان. ايضا عندما شنت اسرائيل حربا عسكرية طاحنة ضد البلد الشقيق وحاصرت عاصمته بيروت واحتلت اجزاء واسعة من جنوبه، كل ذلك فرض على سورية ان تخصص ثلاثة ارباع ميزانيتها ومعظم دخلها وثروتها لبناء قوتها العسكرية وتنمية قدراتها القتالية والدفاعية وتحقيق الحد الأدنى من التوازن الاستراتيجي العسكري بينها وبين اسرائيل. ويحس الشارع السوري ان المعاناة التي شهدها ويشهدها في حياته المعيشية وفي انخفاض دخله وصعوبة اوضاعه الاقتصادية وسياسة شد الحزام على البطن يعود إلى استمرار العدوان والاحتلال الاسرائيلي على ارضه وشعبه فلو انسحبت اسرائيل واقرت بالحقوق العربية وكانت فعلاً تريد السلام العادل والكامل لتحققت التنمية وتوجهت كل موارد البلاد إلى بناء اقتصاد قوي متين يوفر للمواطنين الرخاء والازدهار والدخل المناسب والحياة الهانئة، وهكذا اضاعت اسرائيل على سورية فرصة استثمار ذلك الاستقرار السياسي الذي نعمت به منذ السبعينات بقيادة الرئيس حافظ الاسد، حيث لم تدع له اسرائيل فرصة للالتفات إلى الشأن الداخلي بالشكل الذي يرغب به ويطمح إليه. فالأولوية كانت بالنسبة إلى سورية هي حسم الصراع مع اسرائيل حرباً او سلماً وهو ما دفعت سورية من اجله ثمناً باهظاً، فلقد ضحت بمئات الألوف من الشهداء وتوجهت بكل ما تملك إلى بناء جيش قوي قادر على الدفاع والصمود وتحرير الارض، والتصدي للاطماع الصهيونية في المنطقة العربية ووقفت إلى جانب لبنان في اظلم الاوقات واحلك الايام واسود الليالي. ولولا ان تمسكت سورية بكل الثوابت التي عاد فأكدها السيد فاروق الشرع في حديثه التلفزيوني الاخير فما قبلت بالحلول الاسرائيلية التي تنتقص من الارض ومن الكرامة وتجعل البلدان العربية توابع تدور في فلكها ومن اجلها وعلى حسابها ولولا هذا الموقف السوري الثابت والمبدئي لكانت صورة وشكل المنطقة العربية على الشكل والصورة التي رسمتها اسرائيل وحددت خطوط طوله وعرضه.

الحرب والاستثمار استمرار الاحتلال الاسرائيلي للارض العربية كانت سورية تدفع دائما ولا تزال ضريبته الباهظة ولولا هذا الاحتلال والعدوان المستمر لاستثمرت سورية استقرارها السياسي وطموح قيادتها وشعبها في التنمية والبناء، ولكانت اليوم واحدة من اقوى دول الشرق الاوسط واكثرها ثراء وتقدما وتطوراً ولكان المواطن فيها ينعم اليوم بدرجة عالية ومرتفعة في مستوى الحياة المعاشي، وكان يمكن للرئيس حافظ الاسد وقد حقق لها كثيراً ان يحقق لها اكثر على صعيد بناء اقتصاد قوي. ولكن اسرائيل لم تدع له فرصة ليفعل ذلك بل ارهقت بلده وشعبه بعنادها ورفضها للسلام العادل والشامل وضربها عرض الحائط بكل قرارات الشرعية الدولية واستمرارها في احتلال الارض واغتصاب الحقوق. وعندما اصبح السلام هو المطلب الذي تنادي به سورية وتسعى إليه صار واضحا في المقابل ان اسرائيل التي كانت تتظاهر قبل ذلك بأنها هي الطرف الذي يريد السلام وان سورية تحديداً على رأس العرب الذين يسعون لالقائها في البحر، لا تريد فعلا السلام فبدأت تصطنع وتخلق ازمات سياسية داخلية واصبحت كرة الحكم فيها تتقاذفها حكومات الليكود تارة والعمال تارة اخرى وكل واحدة لا تختلف عن الاخرى إلا بمقدار ما تستنزف من الوقت في حرق اعصاب الطرف المفاوض منذ ان بدأت جولات السلام التي ما عرفت اسرائيل يوماً فيها إلى اين تريد ان تتجه وماذا تريد غير الاصرار على الابقاء على ما هو قائم مع مزيد من التنازلات والتنازلات التي لا يقبلها حتى من طرف محايد عقل ولا منطق ودائما تحت المظلة الاميركية التي تظن اسرائيل انها تقيها من كل الاحتمالات وإلى ما لا نهاية لكنها تنسى انه ليس هناك في السياسة الدولية ثوابت دائمة وجامدة، فالمصالح اليوم اذا كانت متفقة بين طرف وطرف حتى ولو كانت تشكل جسماً واحداً او شبه ذلك فقد يأتي اليوم الذي تصبح فيه هذه المصالح مختلفة بل ومتناقضة وقد يصبح وقتها الجزء مهدداً للكل ووقتها سيختلف كل شيء...

الشارع السوري وكما عبر عنه السيد فارق الشرع يعرف اليوم واكثر من اي وقت مضى ان اسرائيل، اذ تماطل وتخادع لا تريد السلام، وان ارادته فهو سلام منقوص وغير عادل وهو سلام مرفوض حتماً جملة وتفصيلاً. والموقف السوري ان ارادت اسرائيل السلام واضح وتختصره جملة مفيدة واحدة سلام عادل وكامل يعيد الحقوق العربية إلى اصحابها، انسحاب من كل الاراضي المحتلة إلى حدود الرابع من حزيران 1967. اللعب بالنار هذه الجملة المختصرة الواضحة المفيدة التي يصعب على اسرائيل فهمها واستيعابها حفظها كل سوري عن ظهر قلب من الطفل الصغير إلى الشيخ الكبير ولن تنفع او تجدي اي مفاوضات قادمة أو لاحقة في تحقيق اي شكل من اشكال السلام طالما ان اسرائيل تتلهى باللعب في هذه الجملة الصريحة فتفكك حروفها وتعيد تركيب هذه الحروف بشكل تتعمد ان يكون عشوائيا وخاطئا وغير مفهوم لتجعل منه احجية وطلاسم، ويزداد الشعور ويقوى بأنها ستظل تفعل ذلك إلى ان يحين الوقت الذي تفقد فيه اسرائيل السيطرة على لعبة فك الحروف واعادة تركيبها، عندها ستجد نفسها انها بفعلتها هذه انما تلعب فعلا بالنار واللعب بالنار في النهاية يحرق ويدمّر.

لقد عبر السيد فاروق الشرع عن اعمق الاحاسيس الدفينة في عقول السوريين في ما يخص مسألة السلام وقال بكل صراحة وموضوعية ما تنطق به السنتهم، وبعد ذلك اذا كانت اسرائيل تراهن على شيء فإن عليها ان تدرك انها بالنسبة إلى سورية لا شيء ابداً يمكن ان تراهن عليه، فثوابت الرئيس حافظ الاسد هي ثوابت الرئيس بشار الاسد لانها هي هي تظل وتبقى ثوابت وطن وشعب وقضيّته...!

* كاتب وإعلامي سوري