حكايات أهل السياسة

TT

تشييع الجنائز ليس من المناسبات البهيجة في الحياة، بل قل ولا في الموت. ولكنها غالبا ما تصبح مناسبات للكثير من الفرص المواتية والصفقات التجارية والمبادرات السياسية، بل وحتى الخطبات والزيجات التي تجري فوق قبر الزوجة المتوفاة. يتقدم احد الاوفياء من الحاضرين الى الرجل المترمل توا، «ولا يهمك ابو فلان، خادمتك بنتي قدامك. بس قول نعقد لك عليها حالا». فيكفكف الزوج المنكوب دموعه ويتطلع الى فجر قرمزي جديد من الصبر والسلوان. وفي بعض الاحيان تتحول المناسبة الى سكيتشات كوميدية، كما وجدت في الرسالة التي كتبها السياسي البريطاني هوراس ويلبول الى زميله في البرلمان جورج مونتاك يصف فيها تشييع جثمان الدوق كمبرلند سنة 1760:

عندما دخلنا قبة هنري السابع في كنيسة وستمنستر أبي، زال كل ما كان هناك من الوقار والحداد ومظاهر الاسى. اختفى النظام وسادت الفوضى فجلس او وقف المشيعون حسب ما يعجبهم او حسب ما يستطيعون. راح حملة النعش يستصرخون طلبا للنجدة والمساعدة تحت وطأة جثة الفقيد الثقيلة جدا. تلا مطران الكاتدرائية النعي فتلكأ وتعثر بكثير من الاخطاء لسوء الحظ. وبدلا من ان يتلو الحاضرون المقطوعة التقليدية «الانسان الذي ولد من امرأة»، راحوا يغنونها. اما التراتيل التي جاءت مملة وممجوجة فقد انشدوها كما لو كنا في حفلة عرس وفرح وليس في مأتم جنازة. واما بالنسبة للوريث، الدوق كمبرلند الجديد، فقد دخل بعباءة من الفراء الاسود الثقيل يسحلها وراءه لنحو خمسة ياردات. عانى الكثير من الوقوف ببزته هذه على قدميه لمدة ساعتين وعلى رجله المشلولة بسبب جلطة سابقة. وبسببها تأثرت احدى عينيه فبدا ازور العينين والتوت شفتاه بشكل مرير بفعل ذلك. بدا في هيئته هذه وكأنه كان غارقا في التأمل بنفس ذلك المصير الاليم الذي انتهى اليه والده الفقيد، والذي سيلحق به قريبا على اكثر احتمال. غير انه استطاع ان يتحمل الموقف الكئيب بشيء من الجلادة والسلوان.

انفجر الدوق نيوكاسل بنوبة من البكاء والنحيب حالما دخل الكنيسة وترامى متهالكا على احد المقاعد الخشبية، فأسرع اليه رئيس الاساقفة بشيء من العطر ليشممه وينعشه. ولكن ما ان مرت دقيقتان حتى تغلب على ريائه وتظاهره فانطلق يجوب الكنيسة وبيده كأس مليئة بالنبيذ، يعاين ويتفحص ويفتش ويتأكد عمن حضر ومن لم يحضر، يحتسي النبيذ بيد ويمسح دموعه عن عينيه باليد الاخرى.

ثم ما لبث الدوق نيوكاسل حتى استولى عليه خوفه القديم من البرد وتعريض نفسه الى الزكام. وفيما كان الدوق كمبرلند الجديد يعاني من شدة حر القاعة، وجد نفسه مثقلا بشيء ما وعاجزا عن السير الى الامام. التفت فوجد ان الدوق نيوكاسل كان واقفا بقدميه على عباءته الفرائية المديدة ليتفادى بذلك الوقوف على رخام الكنيسة البارد.