استخدام العنف للاستيلاء على «الأرض الموعودة»

TT

فتح المسلمون العرب القدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بعد الحاق هزيمة ساحقة بالبيزنطيين. فبنى الخليفة مسجد عمر على الصخرة التي انطلق منها الرسول صلى الله عليه وسلم الى السماء ليلة المعراج. وفي سنة 691 بنى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان قبة الصخرة، ثم بنى الخليفة الوليد بن عبد الملك المسجد الأقصى في اوائل القرن الثامن للميلاد. وتعتبر القدس اولى القبلتين وثالث الحرمين، وهي محجة للمسلمين. وتعامل الأمويون والعباسيون من بعدهم بتسامح مع المسيحيين والباقين من اليهود في القدس. وكان الفاتحون المسلمون قد بسطوا نفوذهم على كل فلسطين وغالبية مناطق الشرق الأوسط من سنة 640 للميلاد، فاتخذت البلاد من ذلك الحين الطابع العربي الاسلامي.

1099 ـ 1187 (88 سنة): عهد الصليبيين، حيث اجتاحوا الشرق الأوسط ووصلوا الى القدس «ولم يبد المقاتلون أي رأفة بالمهزومين، وقتلوا النساء والأطفال.. الى ان كانت خيلهم تخوض في دمائهم.. أما المساكين الذين اعتصموا في المساجد الاسلامية والمعابد اليهودية فقد احرقوا احياء عندما أشعل الصليبيون النار فيها.. وقدر عدد المسلمين الذين قتلوا في جوار قبة الصخرة بنحو عشرة آلاف شخص».

1187 ـ 1228 (41 سنة): استعاد المسلمون القدس بقيادة البطل صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين.

1228 ـ 1260 (32 سنة): استيلاء الأتراك الخوارزميين على القدس ونهبها.

1260 ـ 1517 (257 سنة): سيطرة المماليك المصريين على القدس وفلسطين وجعلها اقليماً من دولتهم.

1517 ـ 1833 (316 سنة): انتصار الامبراطورية العثمانية بقيادة السلطان سليم الأول على المماليك في مرج دابق واعادة تنظيم فلسطين على اساس اقطاعي، واستمر العثمانيون في حكم القدس اكثر من ثلاثة قرون.

1833 ـ 1841 (8 سنوات): سيطرة حاكم مصر محمد علي وولده ابراهيم على القدس.

1841 ـ 1917 (76 سنة): استعادة العثمانيين فلسطين، وقيام الدول الغربية بفتح قنصلياتها في القدس.

وقفة هامة في اواخر القرن التاسع عشر بدأ الصهاينة بحملة سياسية واسعة النطاق للهجرة الى فلسطين. وقاومت الحكومة العثمانية الحركة الصهيونية وحاولت منع اليهود من الهجرة الى فلسطين، لكنها فشلت لمساندة الدول الأوروبية للصهاينة. وكان تعداد سكان فلسطين في سنة 1914 قد بلغ نحو 630 ألف نسمة: 500 ألف مسلم، 70 ألف مسيحي، 60 ألف يهودي.

1917 ـ 1948 (31 سنة): دخول القوات البريطانية فلسطين والقدس بقيادة السير اللنبي بعد انسحاب الأتراك. وبقيت فلسطين تحت الانتداب البريطاني الى سنة 1948، واستمرت المواجهات بين اليهود والعرب حتى عشية الحرب العالمية الثانية، فانسحبت بريطانيا من فلسطين سنة 1948.

قرار التقسيم: في نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1947 صوتت الأمم المتحدة بعد نقاشات مطولة وبدفع من اميركا لتقسيم فلسطين واقامة دولة لكل من العرب واليهود، على حين استمر العداء والنزاع بين العرب واليهود بعد التقسيم، وتحدى اليهود قرارات الأمم المتحدة المتتالية بعد التقسيم وأثاروا الخلافات في المجتمع الدولي بسبب ضمهم القدس، في خطوة تتسم بالغطرسة والافتقار الى أية شرعية. ولا يزال الاختلاف قائماً بين الطرفين المتنازعين العرب واليهود.

رواية «الأرض الموعودة» الكلام عن القدس وتاريخها يجرنا الى حكاية «الارض الموعودة» التي طالما ادعى الاسرائيليون بها، سواء في كتابهم التوراة أو في وسائلهم الاعلامية، وهم يعتبرون القدس جزءا من تلك الأرض: فتقول التوراة في مواضع ما معناه ان الرب قطع وعدا لبني اسرائيل بأن يعطيهم ارضا يعيشون فيها: فأول ما يرد نص هذا الوعد في الكتاب الاول من التوارة تكوين كالاتي: «في ذلك اليوم قطع الرب مع ابرام (ابراهيم) ميثاقا قائلا: لنسلك اعطي هذه الارض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات» تكوين 15: 18. «فهل يعقل ان يكون بنو اسرائيل قد تصوروا في زمانهم، وهم الشعب الصغير الذي قضى معظم تاريخه في ظل الامبراطوريات المصرية والعراقية العظيمة، بأن ارضهم الموعودة تمتد فعلا من النيل المصري الى الفرات العراقي لتشمل معظم بلاد الشرق الادنى، بما فيها الشام بأسره (بضمنها لبنان).. وبالاضافة الى ذلك، فهل من المعقول ان يعطي الله تعالى في كتبه حقا لاغتصاب اراضي الآخرين!؟» (الصليبي 1985:259).

ويتكرر هذا الوعد بصيغ مختلفة في كتب التوراة الاخرى: خروج، عدد، تثنية. وتتفق هذه النصوص في المعنى، بينما تختلف في الصياغة لانها وضعت من مؤلفين مختلفين عبر تاريخ التوراة. ويتفق اليوم معظم علماء التوراة ومعهم دائرة المعارف اليهودية بان التوراة (الكتب الخمسة الاولى: تكوين، خروج، لاويين، عدد، تثنية) هي من وضع أربعة مؤلفات: اليهوي، الالوهيمي، الكهنوتي، التثنوي. أزمنة هذه المؤلفات في قرون ما قبل الميلاد هي على التوالي: 9،8،7،5/6. ولفظة يهوي مستمدة من يهوه أي الرب الإله القديم للاسرائيليين والوهيمي من الوهيم أي الله وكهنوتي من كهنة اليهود وتثنية أي الناموس الثاني* (1) فإذن اصل التوراة هي هذه المؤلفات الوضعية الاربعة التي اعتمدت في التدوين على النقل الملفوظ لتراث التوراة من جيل لآخر، واضيف مؤلف خامس المؤلف اليهوي ـ الالوهيمي وضعه الكهان اثناء الاسر البابلي لمنع التعارض وتحسين الصياغة، علاوة على مؤلفهم المؤلف الكهنوتي* (2) وانك لتجد معظم النصوص الخاصة بـ «الارض الموعودة» هي من وضع الكهنوت اليهودي في القرن 6 ق. م في فترة السبي البابلي، بخاصة الفصل 17 من كتاب تكوين الذي فيه التفصيل عن هذا الوعد.

العنف و«الأرض الموعودة» وتلاحظ من نصوص «الأرض الموعودة» بأن الرب يهوه متضامن ومتكافل مع «ابنائه» اليهود، عليهم ان ينفذوا أوامره باغتصاب أرض الغير وطرد اهلها الشرعيين وتعذيبهم: بل وارتكاب المجازر فيهم وفي بهائمهم، وحرق زرعهم واشجارهم، كما في روايات كتاب يشوع في ما حل من تدمير كامل لمدن كنعان، والتي دحضها علم الآثار. فما فعله يشوع واتباعه بكنعان، وما فعلته جماعة موسى بمديان، حسب نص التوارة، كأنما رب بني اسرائيل رب مخرب هولي رهيب وسفاح متعطش لدماء البشر من غير الاسرائيليين ـ روايات لا يمكن ان تتفق مع أي عرف حضاري. فاقرأ مثلا ما نصه كتاب عدد من التوراة في هذا المقام حول مجزرة مديان: «فهجموا على مديان كما امر الرب وقتلوا كل ذكر وسبى بنو اسرائيل نساء مديان واطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل املاكهم واحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار.. وقال لهم موسى هل ابقيتم كل انثى حية..؟ فالان اقتلوا كل ذكر من الاطفال». (عدد31:7، 9 ـ 10، 15،17) ويأمر الرب صموئيل، كما امر من قبله يشوع وموسى، بأن يوعز الى شاول (يقال هو أول ملك للاسرائيليين) يبيد العماليق عن بكرة ابيهم: «والآن اسمع صوت الرب. هكذا يقول الرب رب الجنود. إني افتقدت ما عمل عمليق باسرائيل حين وقف له في الطريق عند صعوده من مصر، فالان اذهب واضرب عماليق، وحرموا كل ماله، ولا تعف عنهم. بل اقتل رجلا والمرأة، طفلا ورضيعا، بقرا وغنما، جملا وحمارا» صموئيل اول 15:3.

وبالمقابل، اقرأ صوت الله في القرآن الكريم:

«من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» المائدة 32.

ومن ضمن سياسة الاعتداء على الغير التي اعتمدها رب بني اسرائيل لهم، يحثهم على طرد الشعوب من ارضها، ويطلق لهم الحرية الكاملة باجتياح ثم اغتصاب أي أرض يختارونها كما جاء في كتاب تثنية: «يطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من امامكم فترثون شعوبا اكبر واعظم منكم كل مكان تدوسه بطون اقدامكم يكون لكم من البرية ولبنان. من النهر نهر الفرات الى البحر الغربي يكون تخومكم. لا يقف انسان في وجهكم. الرب الهكم يجعل خشيتكم ورعبكم على كل الارض التي تدوسونها كما كلمكم» تثنية 11: 23 ـ25 فيعني النص أن الأرض كلها ملك بني إسرائيل.. ولا يمكن أن يقف إنسان في طريق اغتصابهم لأرض الغير لأن الرب معهم.. فأرض فلسطين وأراضي الشرق الأدنى من حولها ساحة مفتوحة أمامهم، فهم جبارون يرهبون عباد اللّه في أرضه ـ هم شعب اللّه المختار! هم أولياء على دين إبراهيم الذي لم يكن يهودياً ولا نصرانياً.. وفي توراتهم يعتبرون إبراهيم عليه السلام جداً لهم وليس لغيرهم! ولكنهم قد أخطأوا في الاعتبار، لأن إبراهيم حقيقة لم يكن جد بني إسرائيل وحدهم، فمن ابنه البكر إسماعيل تحدرت عدة شعوب. ومن قطورة زوجة إبراهيم الثالثة تحدرت شعوب أيضاً. وكان لإسحاق بن إبراهيم ولدان توأمان يعقوب وعيسو الذي تسمى في ما بعد أدوم وهو جد الادوميين. ومن يعقوب الذي تسمى في ما بعد إسرائيل تحدرت قبائل الإسرائيليين.

فلو ذهبت لتقابل العنف في التوراة لاغتصاب أرض الغير مع أديان وضعية كالهندوسية واليانية لأدركت أنهما يدعوان إلى نبذ العنف، فالهندوسية أقدم الأديان الوضعية ترجع إلى السنة 3500 ق.م قبل اليهودية بـ 2600 سنة تقريباً، يعتنقها حوالي 700 مليون شخص. تسعى إلى التحرر ونبذ العنف، إحدى شخصياتها البارزة المهاتما غاندي 1869 ـ 1948 الذي لم يقتل أو يتسبب في قتل ذبابة أثناء كفاحه من أجل تحرير شعبه ووطنه، وقوله المشهور في هذا المقام:

«اللاعنف هو البند الأول من ديني وهو البند الخير من عقيدتي» واليانية دين وضعي آخر يشدد على عقيدة «أهيسما» أي اللاعنف: فليس بوسع اليانيين قتل ذبابة، إذ وصل التطرف عندهم في اللاعنف حد أن الراهبات اليانيات يضعن أغطية على أفواههن تعرف بـ «موخا ـ فاستريكا» لمنع قتل الذباب بدخوله إلى أفواههن!

* كاتب عراقي مقيم في بريطانيا