السياسة فن الممكن

TT

من الخطأ أن نقول بأن هنالك أزمة سياسية في العراق، والسبب يكمن في أنه لا سياسة في العراق ولا سياسيين، وإلا لو كان لدينا فكر سياسي لما أنتج لنا أزمات متتالية، بل ما هو موجود، صراع زعامات أو صراع سلطة، يشبه إلى حد كبير حروب التجار في سوق واحدة.

ومن الخطأ أيضا أن ننتظر حوارا سياسيا لنفس السبب الذي ذكرناه، لذلك أغلب الحوارات لم تصل لحلول، بل ظلت النهايات معتمة غير معروفة.

والحوار كما يعرف الجميع يخضع لمنطق السياسة، التي هي كما يقولون: «فن الممكن»، فما هو الممكن؟ هذا السؤال لم يطرحه أي شخص من الممتهنين السياسة على نفسه، ولا أقصد هنا ما هو موجود الآن من الساسة في البلد، بل منذ تشكيل الدولة العراقية بعد الحرب العالمية الثانية، وجدنا بأن الطبقة السياسية لا تعرف حقيقة بأن السياسة فن الممكن، بل تعتبر السياسة الباب المؤدي للسلطة، والسلطة هدف مركزي لا بد من الوصول إليه وهذا ما جعل من رجال العسكر في حقبة معينة يتحولون لرجال سلطة وطلاب لها.

ووفق هذه الرؤية لم ينجب العراق عبر تاريخه الطويل نخبا وكاريزما سياسية بقدر ما أنجب زعامات، وهنالك فرق كبير جدا بين السياسي والزعيم، السياسي ليس بالضرورة أن يكون رجل سلطة، بقدر ما أنه أحياناً كثيرة يكون رجل معارضة بمفهومها الديمقراطي.

ومن ينظر لتاريخ العراق خاصة منذ عام 1968 وحتى عام 2003 سيكتشف بأن البلد كان يدار بآليات غير سياسية ومن رجال لا يمتلكون قدرة سياسية تجعلهم يدركون (الممكن) من السياسة، بقدر ما أنهم تعاملوا مع كل حدث مهما كان بسيطا بآليات غير سياسية ولنا في غزو الكويت من قبل نظام صدام حسين دليلا على غياب الفكر السياسي.

وهذه الطريقة جرت البلد لمهالك كثيرة، سواء في معالجة القضية الكردية أو في الحرب العراقية الإيرانية أو غزو الكويت، أو حتى في التعامل مع الرأي الآخر، غابت الحكمة السياسية فجاءت النتائج وخيمة، ليس على الحكومة بل على الشعب واقتصاد البلد بحكم أن من يمسك بالقرار السياسي آنذاك لا يعرف من السياسة شيئا، بقدر معرفته بالعسكرية، فينظر للحلول الأمنية على أنها الوحيدة المتوفرة والمتيسرة بيده.

فلو قدرنا للسياسة أن تكون هي الفيصل في حل إشكاليات الحدود مع إيران آنذاك لتجنبنا حربا طويلة، وبالتأكيد لن تكون المفاوضات أطول من فترة الحرب نفسها، وإن طالت فلا ضير سيصيبنا، وهذا ينطبق أيضا على غزو الكويت، لو جلس صدام للحوار السياسي لما دفع العراق كل هذه التعويضات والخسائر البشرية التي ترتبت سواء في تحرير الكويت أو الحظر الاقتصادي ومن ثم حرب تحرير العراق.

أقول بأن مفاوضات سنة أفضل من اقتتال يوم واحد أو حتى ساعة واحدة، لأن أي مفاوضات وحوارات لا تعطل الحياة في البلد ولا توقف التنمية ولا تقتل بشرا، هذه حقيقة يعرفها الجميع صغيرهم وكبيرهم، لكن عندما تغيب الحوارات تبرز حجم الأخطاء السياسية وتؤثر على المشهد العام للبلد.

أتمنى أن يدرك الساسة في البلاد بأن مهنتهم هذه هي مهنة الممكن لا أكثر، والممكن الذي نقصده بأن من يحترف السياسة عليه أن يعرف حقا بأن السياسة فن الممكن.