المرأة والشورى.. مطارحة لتعميم الفلسفة الأصلية

TT

هل نطالب بإيجاد مسلمين جدد يفهمون الإسلام كما يريد الله ورسوله من حيث إن المسلمين الموجودين الآن لا يفقهون الإسلام على هذا النحو؟!

ما منعنا من هذه المطالبة إلا مانعان:

1) مانع أن هذه المطالبة مبنية على مسلمة «إلغاء» وجود المسلمين، وهو إلغاء يتضمن نزوعا خفيا إلى «التكفير»، وهي نزعة نفر إلى الله فرارا من الالتياث بها، ذلك أن المسارع إلى التكفير يتورط في الكفر إذا رمى مسلما بريئا بهذه التهمة الغليظة.

2) ومانع إيماننا الراسخ - والمطرد – بمنهج الإصلاح من خلال الواقع الموجود، وهو منهج لا يسمح بتجاهل الواقع، ولا بالقفز عليه.

ولئن جرى الامتناع عن ذلك المطلب، فإن البديل الضروري هو الجهر والصدع بنقد واقع المسلمين الذي شوه صورة الإسلام الوضيئة تشويها مسببا – مثلا – بالجهالة، وبالسماح للتقاليد الرميم بأن تزاحم الإسلام، وتتفوق – في التطبيق – على حقائقه ومقاصده.

ودوما نتخذ من الأحداث والقضايا الجديدة مدخلا لتأصيل المرجعية من خلال اجتلاء منهجها، والانتصار العقلي والمعرفي له.

منذ أيام اتخذ العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز قرارا اجتماعيا سياسيا بتعيين كوكبة من النساء السعوديات (30 امرأة) أعضاء في مجلس الشورى، ولقد أحدث القرار مناقشات واسعة في المجتمع السعودي.. وبطبيعة الحال، فقد تنوعت هذه المناقشات: كل نظر إلى المسألة من ضلعها الفكري، أو من زاوية رؤيته الثقافية. أما نحن، فقد نظرنا إليها من خلال المرجعية الكبرى وهي «الإسلام»، ومن خلال المنهج الذي نعتمده في فهم هذا الدين، فنقول:

قد يعمد امرؤ ما، أو مجتمع ما، إلى طلاء «هواه» أو صبغ «عادته» بطلاء الإسلام ثم يقول: هذا من عند الله. فهل هذه الدعوى هي «الإسلام الحق»؟.. لا.. لا.. لا إلى آخر اللاءات النافية؛ ذلك أن الإسلام هو «قال الله. قال رسوله».. وليس الإسلام أهواء ولا عادات اجتماعية جاهلة رميم تنتحل صفة الإسلام، أو تطلى بألفاظه ومصطلحاته.. مثلا: لو أن أحدا من المسلمين فسدت فطرته، وأسن ذوقه، واختلت معاييره – الكونية الشرعية – فأخذ يعشق الأوساخ ويمارسها ويمجدها شعرا ونثرا ورسما، وينفر في الوقت نفسه من الطهر والنظافة والجمال ويهجوها، ثم يزعم أن ذلك من دين الإسلام، أكنا مصدقيه؟!!.. لا والذي خلق الإنسان وفطره على محبة النظافة والجمال.. لن نصدق هذا المدعي الفاسد الفطرة والذوق والمعيار.. نعم، لن نصدقه أبدا، ولو أصيب بالذبحة الحلقية من شدة الصياح، بدعواه الباطلة القبيحة.

وكيف نصدق ممسوخ الفطرة والعقل وبين أيدينا تعاليم الإسلام الوضيئة وبراهينه الساطعة التي تمجد النظافة، وتعلي شأن الجمال؟.. نقرأ في سنة النبي (صلى الله عليه وسلم) مثلا: أن رجلا سأله فقال: «إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا»، فقال النبي: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال».. وقال: «ما جاءني جبريل إلا أوصاني بالسواك».. وقال: «من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مساجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم».

ولئن نسخ الإسلام دعاوى إلصاق الأوساخ والمقابح به، فإنه ناسخ ومبطل – لا محالة – كل دعوى تنتقص من قيمة المرأة ومكانتها باسمه. فكما أن هناك تعاليم إسلامية واضحة قاطعة تؤصل مفهوم النظافة والجمال.. هناك تعاليم إسلامية واضحة قاطعة تؤصل المفهوم العالي الجليل النبيل الجميل لمكانة المرأة وقدرها وقيمتها، وتحتفي برأيها ومشورتها في شؤون كبرى:

وهذا هو البرهان:

أ) أن المرأة أبدت رأيها ومشورتها عند أعظم حدث في التاريخ البشري كله: حدث نزول الوحي على النبي الخاتم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم). فقد كانت خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – أول من سمع بهذا الحدث، وأول من أبدى مشورته في هذا الموقف. فقد دخل النبي على خديجة وهو يرجف فقال: زملوني، زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع وأخبرها الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا. إنك تصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.. ثم أشارت على النبي بأن يذهبا – معا – إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لأخذ رأيه في الموضوع.. وقد كان.

ب) في واقعة الحديبية أشارت أم سلمة على زوجها النبي شورى أنقذت بها الموقف العصيب كله. فقد غضب معظم المسلمين من ظاهر الاتفاق الذي أبرم بين النبي وقريش. وفي هذا المناخ، وحين طلب النبي منهم أن ينحروا ويحلقوا، امتنعوا عن ذلك على الرغم من أن النبي قد كرر الطلب ثلاثا!!.. عندئذ دخل النبي على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله، أتحب ذلك (أي أتحب أن يفعل المسلمون ما أمرتهم به ويزول المشكل)؟ اخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة (!!!!) حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلق لك.. فخرج إليهم فلم يكلم أحدا منهم!! حتى فعل ما أشارت به زوجته، فلما رأى المسلمون ذلك قاموا فنحروا وحلقوا وجعل بعضهم يحلق بعضا.. وهذه شورى بالغة الذكاء والفطنة والسداد.. مضمونها وقوامها أن «الفعل» في مثل هذه المواقف أبلغ وأنجع من الكلام.. ثم إن النبي المعصوم الموحى إليه قد أصغى – بانتباه – وهو النبي، إلى مشورة أم سلمة ثم طبقها بحذافيرها!! وبذلك انقشعت الأزمة، وزال الموقف العصيب الرهيب، بناء على مشورة امرأة.

ج) اعتد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برأي أم هانئ وأقره وأمضاه في مسألة إجارة وحماية أحد المشركين. قالت أم هانئ: يا رسول الله، زعم ابن أمي علي (أي ابن أبي طالب) أنه قاتل رجلا أجرته (أعطيته الأمان) فلان بن هبيرة. فقال النبي: «أجرنا من أجرت يا أم هانئ».

د) وهذه واقعة شورية نسائية متألقة الدلالة، ساطعة المفهوم، حية التطبيق.. قال عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما): دخلت علي حفصة (أخته) فقلت: قد كان من أمر الناس ما ترين (يعني حادثة التحكيم المشهورة)، فلم يجعل لي من الأمر شيء، فقالت حفصة: الحق بهم، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب.. ويعلق ابن حجر على هذه الواقعة الشورية النسائية فيقول: «فشاور ابن عمر أخته في التوجه إليهم أو عدمه، فأشارت عليه باللحاق بهم خشية أن ينشأ في غيبته اختلاف يفضي إلى استمرار الفتنة، وقالت حفصة لأخيها: إنه لا يجمل بك أن تتخلف عن صلح يصلح الله به بين أمة محمد وأنت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عمر بن الخطاب».

ه) أن المرأة عرفت حقها في الرأي والشورى ومارسته بشجاعة وثقة.. مثلا: قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وهو من هو في المهابة: «بينما أنا في أمر أتأمره (أفكر فيه وأشاور نفسي) إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا. فقلت لها: ما لك ولما ها هنا، فيم تدخلك في ما لا يعنيك، وتدخلك في أمر أريده؟ فقالت: عجبا يا ابن الخطاب، ما تريد أن أراجعك، وابنتك تراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان؟!!».

إن المنهج جد واضح في مفهوم المرأة ودورها الفاعل في المجتمع، ولعل دخولها مجلس الشورى يصبح مناسبة ومدخلا لتصحيح المفاهيم الخاطئة – تجاه المرأة – في كل شأن وعلى كل مستوى.