من مواطن مصري إلى جلالة ملكة إنجلترا

TT

أتقدم إلى جلالتكم بكل التقدير والاحترام، طالبا أن تقوم إنجلترا باحتلال مصر بعد أن فشل الاحتلال المصري في الحفاظ على آدمية شعبها العريق وإدارة الحياة فيها. أطلب ذلك وأنا واحد من هؤلاء الذين خرجوا في مظاهرات ضد وجودكم طالبا منكم الخروج من البلاد، وأنا أعلن أسفي لذلك، وأعتذر، وأتعهد بالدفاع بكل ما أوتيت من قوة عن حكمكم الذي أطلبه الآن بكل إصرار كأمل أخير لعودة الحياة الطبيعية إلى مصر. إن وجود الاستعمار الإنجليزي بالتحديد في مصر سيشعر المواطن المصري بأن وجوده له معنى وأهمية، ومن خلال صراعه معكم، الذي لن أشترك أنا فيه، سيرتفع بمستوى إنسانيته ويدفعه إلى المزيد من العلم والمعرفة، ويكسبه بعضا من خصالكم ومنها احترام القانون وحقوق الإنسان، وهو أيضا ما يعطيني الأمل في أن تعود اليقظة إلى المصري، فالمواطن المصري الآن في تياره العام يتسم بالإهمال. تخيلي يا مولاتي ماذا يمكن أن يحدث في بلد ما عندما يتحول المواطنون فيه إلى كائنات مهملة.. مهندسو القطارات، سائقو القطارات، المراكبية، عمال الصيانة في كل مهنة، سائقو الأتوبيسات، مهندسو البناء، الصنّاع... إلخ؟!

نشرة الأخبار كل صباح تنقلنا من محزنة إلى أخرى، ومن سرادق عزاء إلى آخر، كما لو أن المصريين في هذه الدنيا يعملون بعقود مؤقتة يتعجلون إنهاءها وإنهاء حياتهم معها لينعموا بآخرة يتخلصون فيها من عبء الحياة أو من الإحساس بالمسؤولية. إن مرحلة الصراع معكم من أجل الاستقلال هي التي أمدت مصر بأعظم مفكريها وفنانيها وسياسييها، فقد كان الهدف أمامهم واضحا وهو الاستقلال والدستور، غير أن أحدا من هؤلاء جميعا لم يفكر للحظة واحدة في أن الاستعمار الداخلي من الممكن أن يكون أخطر على حياة الشعب المصري، وهو ما تبين لنا جميعا بعد ذلك بسنوات قليلة.

في كل لحظة يموت عشرات الناس نتيجة لخطأ بسيط ارتكبه شخص مهمل. وفي الظروف العادية يمكن الوصول إلى هذا الشخص ومحاسبته عن إهماله. لكن عندما يتبنى الناس الإهمال طريقا وقاعدة في العمل والحياة، فمن المستحيل أن يوجد من يمكن محاسبته. وحتى من ينجون من الموت وينقلونهم إلى المستشفيات يكتشف أهلوهم هناك أن المسؤولين أهملوا في صيانة آلاتهم الطبية، وأن ما هم في حاجة إليه من علاج ليس له وجود. أعود إلى كلمة «ينقلونهم»، الواقع أن الفعل في هذه الكلمة لا يحدث كما تتصورين يا مولاتي، وإنما الأمر يتوقف على الحظ والصدفة، فربما ينزف المصاب إلى أن يموت قبل أن تصل إليه سيارة الإسعاف. لم يحدث من قبل أن قدم بلد هذا العدد من الشهداء بغير حروب، وكأن الحرب الوحيدة التي أعلناها كانت حربنا على أنفسنا. إن غياب الحذر العام وافتقاد الدقة لا يكشفان فقط عن ضعف أخلاقي، بل يكشفان عن نشاط قوي للغاية لغريزة الموت داخل نفوس البشر.

أرجوك يا مولاتي.. أرسلي قواتك لتحتل مصر وتحكمها، فأنا على يقين أن قوات الاحتلال سترغم كل المسؤولين في مصر على احترام حياة البشر. لقد فشلنا في إدارة الحياة في بلدنا يا مولاتي، وأنا آسف وحزين لإعلاني ذلك. أنا شخصيا عندما ينهار بي البيت الذي أسكنه، وأجد نفسي تحت الأنقاض، لا توجد لدي مشكلة في أن يكون اسم منقذي هو جون أو إدوارد، وإذا كانت الكلمة المعروفة في مصر هي كلمة «الحقوني» فلا توجد مشكلة في أن يتعلم المصريون كلمة جديدة تفي بالغرض هي «Help» نصرخ بها من تحت الأنقاض، أو على مزلقانات القطارات، أو من فوق مراكب الصيد الغارقة، أو أمام مكاتب المسؤولين. أعرف بالطبع أن هذا العصر لا يعرف الاستعمار، ولا يسمح به، كما أعرف أن كل مؤسساتكم النيابية لن توافق عليه، وأنه من المستحيل أن تصدري توجيهاتك لهم بإعادة احتلالنا، لكن أملي كبير في أن تفكري جلالتكم ومؤسساتكم السياسية في طلبي هذا بوصفه صرخة استغاثة من غريق تحتم الإنسانية أن تخفوا لإنقاذه، بحق العيش والملح القديم.

أعرف بالطبع ما سيثيره طلبي هذا في نفوس المثقفين في مصر والعالم العربي من استياء وغضب، وربما يوجهون لي تهمة الخيانة، الواقع أن هذه التهمة لم تعد لها أهمية أو معنى، بعد أن بتنا نوجهها في كل لحظة إلى بعضنا البعض. الجميع الآن مطالبون بالاجتهاد وهذا اجتهاد مني أثاب عليه. إن استخدام الخيال أمر ضروري في السياسة، اسمحي لي أن أتخيل يا مولاتي ملايين المصريين على شاطئ الإسكندرية وهم يغنون عند رؤية الأسطول الإنجليزي: الاحتلال رجع تاني لينا.. مصر اليوم في عيد.

حتى الآن أنا لم أتكلم عن التكلفة أو عن الشق المالي في العملية، بالتأكيد الحكومة الإنجليزية ستقول إنها لا توجد لديها ميزانية لإعادة احتلال مصر، ومن المؤكد أن البرلمان الإنجليزي سيرفض زيادة الضرائب على المواطن الإنجليزي لتوفير هذه الميزانية، لكن ذلك يجب ألا يشكل عقبة أمام مشروعي، كل الفلوس التي يجب على الحكومة الأميركية والحكومات الأوروبية والحكومات العربية أن تدفعها كمعونات وقروض للحكومة المصرية من الممكن أن توجهها للحكومة الإنجليزية لتغطية نفقات الاحتلال، ثم إعادة تدوير هذه المبالغ في المشاريع المستقبلية، بالإضافة بالطبع لمشروع أقترحه وهو الصكوك الإنجليزية، وهو ما يتطلب إنشاء صندوق دين يتولى إدارة الإيرادات والمصروفات إلى أن يتم وضع مصر على الطريق الصحيح، بعدها سأتقدم لكم بطلب آخر للانسحاب من مصر، هذا إذا ما بقيت حيا حتى ذلك الوقت.. يا رب، أحيني إلى ذلك اليوم لكي أذهب مع ملايين المصريين إلى شاطئ الإسكندرية نودع القوات الإنجليزية المغادرة ونحن نغني: مصر رجعت تاني لينا.. إنجلترا اليوم في عيد.

أمر آخر يا مولاتي أعتقد أنه سيثير اهتمامك، وهو اللغة الإنجليزية، ليس بوصفها لغة شكسبير بل بوصفها الجسر الذي يصل علوم ومعارف العصر بكل بلاد الدنيا. الإنجليزية على وشك أن تتعرض لمتاعب حقيقية في مصر، هناك إشارة في الدستور إلى تعريب العلوم في مصر، وهي الإشارة التي عجزت عن فهمها. غير أنها في أفضل الأحوال محاولة للانعزال عن العالم، ومع العزلة تأتي الكراهية والعداء. ما زلت أذكر طفولتي في المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزي التي كنا فيها نحطم لافتات المحلات المكتوبة باللغة الإنجليزية، أخشى أن تقودنا حملة التعريب إلى نفس النشاط. أنا أحب شكسبير، وأكره أن يتحول اسمه إلى «الشيخ زبير» في غمرة إحساسنا بأن كل ما في العالم ينتمي إلينا وأننا نحن من صدرناه للعالم.

مولاتي.. Help.